إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، لقد كان من المنتظر أن يكون لقاؤنا في هذا اليوم المبارك هو الدرس السادس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور، ولكن اسمحوا لي -أيها الأحبة- أن نتوقف عن مواصلة دروس سورة النور لنحيي ضيفاً كريماً قد حل بنا ونزل علينا، إنه ضيف كريم يحل بنا وتحل معه البركات، إنه ضيف عظيم ينزل علينا وتنزل معه الرحمات، إنه ضيف مبارك تخشع فيه القلوب، وتصفو فيه النفوس، وتلين فيه الجلود، وتخشع فيه الجوارح، إنه شهر رمضان، إنه شهر الصيام، إنه شهر القرآن، إنه شهر القيام، إنه شهر الإحسان، إنه شهر العتق من النيران لمن تاب وأناب إلى الرحيم الرحمن جل وعلا.
تعالوا بنا -أيها الأحبة- لنعيش بعض الوقت مع هذا الشهر العظيم المبارك، ومع هذا الضيف العزيز الخفيف الذي سرعان ما يحل بنا، وسرعان ما يولي من بين أيدينا وظهورنا، فلقد كنا نقول منذ يومين أو ثلاثة: غداً رمضان، وسوف نقول بعد وقت قليل: لقد انتهى رمضان، وها هي أيام الخير، وها هي أيام البركات والرحمات تولي سريعةً من بين أيدينا وأظهرنا، فالله الله في هذه الأيام، الله الله في شهر القرآن، الله الله في شهر الصيام، الله الله في شهر الإحسان.
يا عباد الله! يا أبناء هذه الأمة الميمونة المباركة! يا من اختصكم الله جل وعلا بهذا الشهر العظيم المبارك واختصكم فيه بليلة هي خير من ألف شهر، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، والاختيار هنا بمعنى الاصطفاء والاجتباء كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
إن الله جل وعلا هو الذي يخلق وهو الذي يفضل ما يشاء، ويختار من بين خلقه ويصطفي ما يشاء؛ فلقد خلق الله جل وعلا السموات سبعاً واختار العليا منها، فاختصها بالقرب من عرشه جل وعلا.
وخلق الله الجنان واختار منها جنة الفردوس، فجعل عرشه سقفاً لها، ويا لها من كرامة! وخلق الله الملائكة واصطفى من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل، فجبريل هو صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته جميع الأموات بإذن رب الأرض والسماوات، وميكائيل هو صاحب القطر الذي به حياة كل شيء {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
وخلق الله جل وعلا البشر، واصطفى من البشر الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة الخليلين الكريمين: إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم، واختار محمداً صلى الله عليه وسلم ففضله على جميع الأنبياء والمرسلين، فجعله إمام الأتقياء، وجعله إمام الأنبياء، وجعله سيد المرسلين، ورفعه الله جل وعلا على جميع الخلائق، وزكاه في كل شيء، فرفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وشرح الله صدره.
زكاه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
ووضع عنه وزره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2].
وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وخلق الله جل وعلا الأمم، وعددهم كما ورد في الحديث: (خلق الله سبعين أمة)، واختار من بين هذا العدد الضخم الكبير أعظم الأمم وأفضل الأمم وخير الأمم، وهي هذه الأمة، أمة النبي صلى الله عليه وسلم، فضلها الله على جميع الأمم، وكرمها الله على جميع الأمم، وخاطبها بقوله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسند حسن ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل).
وجعل الله هذه الأمة الأخيرة هي الأمة الوسط، أي: هي الأمة العدل، وهي الأمة الشاهدة على جميع الأمم، فقال ربنا جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، جعل الله هذه الأمة الأخيرة هي الأمة الشاهدة على جميع الأمم السابقة، وفي الحديث الذي رواه البخاري وأحمد والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت قومك؟ والله جل وعلا أعلم، فيقول نوح عليه السلام: نعم بلغت قومي، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا لنوح: من يشهد لك يا نوح أنك بلغت قومك؟ فيقول نوح عليه السلام: يشهد لي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته).
هل رأيتم نوحاً؟ هل عاصرتم نوحاً عليه السلام؟ لا والله ما رأيناه ولا عاصرناه، إذاً ما الذي سيجعلنا نشهد لنوح عليه السلام أنه بلغ قومه وأنذر قومه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فتدعون فتشهدون لنوح أنه بلغ قومه، وذلك قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) [البقرة:143]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: الوسط: العدل)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ثم أشهد عليكم).
وفي رواية الإمام أحمد (يقال لهذه الأمة -المباركة الميمونة- ما الذي جعلكم تشهدون لنوح؟ فتقول الأمة: أتانا رسولنا وأخبرنا أن الرسل قد بلغوا قومهم فصدقناه وآمنا به).
نزل القرآن على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم فقرأنا فيه قول الله جل وعلا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1]، إلى آخر السورة التي سماها الله جل وعلا في قرآننا باسم نبي الله نوح، تشهد هذه الأمة المباركة لنوح عليه السلام أنه بلغ قومه وأنذر قومه.
هكذا أيها الأحباب! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، إنه فضل الله جل وعلا {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فأنتم خير أمة، وأنتم أكرم أمة على الله جل وعلا، وفضل الله عليكم عظيم، وصدق -والله- من قال: ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يا أمة القرآن! يا أمة الإسلام! يا أمة التوحيد! يا أمة الإيمان! يا أمة الإحسان! يا أمة التصديق! يا أمة الشهادة! أنتم خير أمة أخرجت للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، بماذا ولماذا؟ بهذه الشروط وتلك القيود: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فوالله إن اختلت هذه الشروط اختلت النتيجة، وضاعت الخيرية عنكم، فإنكم إن لم تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله جل وعلا؛ فلستم بخير أمة أخرجت للناس.