إن أزمة العالم اليوم هي أزمة الثقة في الوعود والتصريحات والأقوال، نعم.
أيها الكرام! وعد بليل يخلف بنهار، ووعد بنهار يكذّب بليل، وتصريح هنا يناقض تصريحاً هناك، وتصريح هناك يكذب تصريحاً هنا وهكذا دواليك.
شأنهم في ذلك كما ذكرت في اللقاء الماضي كشأن جحا الذي صنع ساقيته على النهر؛ لتأخذ الماء من النهر وترد الماء إلى نفس النهر مرة أخرى، فلما عجب الناس من صنيع جحا وقالوا: عجباً لك يا جحا! تأخذ الماء من النهر بساقيتك لترد ساقيتك نفس الماء إلى النهر مرة أخرى، فقال جحا: يكفيني نعيرها.
ونحن لا نسمع إلا تصريحات ووعوداً ولكنها مكذوبة وملفقة، ودجل في دجل، وكذب في كذب، فكم من مرة سمعنا الزعيم الصربي النصراني الحقود يصرح هنا وهناك، ويطير من هنا وهناك، ليعلن على مرأى ومسمع من الدنيا بأنه سيوقف هذه الإبادة البشرية الكاملة للجنس المسلم في جمهورية البوسنة والهرسك.
ولكن ما زالت المسرحية الهزلية الإبادية، مازالت على خشبة المسرح العالمي كله، مازالت إلى يومنا هذا تمارس، والأضواء العالمية كلها تسلط عليها، وما زال المجاهدون من جميع أنحاء العالم قابعون في مقاعدهم أمام أعضاء الفرقة الصربية المسرحية الإبادية الكبرى، مازال المشاهدون في مقاعدهم يشاهدون وينظرون ويتابعون أحداث المسرحية باهتمام بالغ، ومنهم من يصفق بشدة وبحدة وبقوة لأعضاء فرقة الإبادة الصربية الكبرى، ومنهم من يزكي ويبارك هذه التصفية العنصرية، ومنهم من جلس يبكي ويمسح عينيه وخديه التي بللت بالدموع، ولكنه مازال قابعاً في مقعده، مصراً على أن يجلس، وعلى أن ينظر صامتاً ساكتاً؛ ليتابع آخر فصول هذه المسرحية الهزلية الإبادية الكبرى.
وما زال عالمنا الغريب، وما زال عالمنا العجيب يتابع عن كثب، ولا يجيد عالمنا إلا لغة الاستنكار، والشجب، والكلمات والبيانات والإعلانات في الصحف هنا وهناك، وفي وسائل الإعلام من هنا ومن هناك، هذا هو عالمنا، العالم الذي مزقته العصبية المذهبية، عالمنا الذي مزقته العصبية العنصرية، عالمنا الذي مزقته العصبية اللادينية، عالمنا الذي مزقته العصبية الشيوعية والنصرانية الحاقدة التي انطلقت في العالم بأسره، وقد أعماها الحقد، وقد أعماها العنصر والمذهب واللون، أعماها حتى انطلقت لتسوم البشرية حرباً بعد حرب، وبلاء بعد بلاء، وشقاء بعد شقاء، لتسوم البشرية الضنك والشقاء والهوان والذل، حرباً في الحرب، وحرباً في السلم، هذه هي العنصرية المذهبية الجديدة، وهذه هي العنصرية اللونية الجديدة، وهذه هي عنصرية العالم المتحضر، هذه هي عنصرية العالم المتطور، الذي يتغنى كل يوم بحرية الاعتقاد، وبـ الديمقراطية، وبالدعوة إلى السلام.
ما زالت فصول المسرحية قائمة على الرغم من كثرة الوعود، وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من التصريحات الكاذبة، ومن الإعلانات الملونة التي تنيم الناس، وتنيم المسلمين، لتتم آخر فصول هذه المسرحية بإبادة الجنس المسلم من جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة.
ما أحوجنا إلى صدق الوعد، ما أحوج العالم بأسره إلى صدق الوعد حكاماً ومحكومين، إنه المسخ الذي يصيب الروح البشرية في عصر الظلام والانتكاس، إنه المسخ الذي يصيب الحياة البشرية في عصر قيادة العالم الأوروبي المتحضر، في عصر قيادة الرجل الغربي، وما هنالك من بلسم يمس هذه الروح البشرية فيشفيها، وما هنالك من شعاع يضيء خوافيها ودروبها، ولن تعود هذه البشرية، ولن تفيء إلى الحق إلا إذا عاد الإسلام من جديد؛ ليقود ركب البشرية مرة أخرى ليحيل اختراعاتها وعلومها واكتشافاتها إلى أدوات رحمة وسلام، لا إلى أدوات حرب وانتقام، حولتها إلى أدوات حرب لأنها تملك صناعة الحرب، لأنها تملك القنبلة والصاروخ والمدفع ولا تملك ذرة من ذرات الحب، ولا طاقة من طاقات الصدق، ولا دليلاً من أدلة العدالة، على مرأى ومسمع من الدنيا، وعد بنهار يخلف بليل، ووعد بليل يخلف بنهار، وتصريح هنا يكذب هناك، وتصريح هناك ينقض هنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أين الشهامة؟ أين المروءة؟ أين الرجولة؟ لذا أيها الأحباب! لابد أن نرفع رءوسنا خفاقة عالية بأخلاق إسلامنا، هذا الإسلام الذي لابد له مرة أخرى أن يعود من جديد، ليتحمل قيادة البشرية، وليقود قافلة البشرية إلى بر التوحيد والإيمان والأمان، ولن يعود الإسلام هكذا كما تتنزل الأمطار من السماء، وإنما إذا أردنا أن يعود الإسلام فكل منا على ثغرة من الثغور لعودته، لابد أن نعود نحن أولاً إلى الإسلام، لابد أن نعود إلى مصدر عزنا وشرفنا وبقائنا، وكرامتنا وقيادتنا، إنه الإسلام الذي حول رعاة الغنم في أرض الجزيرة في الماضي القريب إلى قادة وسادة لجميع الأمم، إنه الإسلام الذي قال عنه فاروق هذه الأمة: [لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله].
لابد من العودة إلى أخلاق الإسلام جملة وتفصيلاً، لابد من العودة إلى الإسلام بدأً من الحاكمية لله فلا يحكم إلا كتاب الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نلفظ شرع البشر من ملاحدة وزنادقة وعلمانيين وشيوعيين وديمقراطيين واشتراكيين وغيرهم من هذا الصنف الخبيث لنعود إلى شرع الله وحده: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
ولابد من العودة إلى أخلاق الإسلام جملةً وتفصيلاً بدأً من الحاكمية -كما قلت- وحتى إماطة الأذى عن الطريق (الإيمان بضع وسبعون شعبة) نعم لابد من العودة إلى جميع هذه الشعب، لابد من العودة إلى كتاب الله لنقيمه حكماً حكماً، ونهياً نهياً، وحداً حداً، وكلمةً كلمةً، بل وحرفاً حرفاً {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
والعودة إلى هذه الأخلاق ليست أمراً مستحيلاً، وليست من المثل العليا في دولة أفلاطون المثالية، لا.
فإن الإسلام هو دولة مثالية، إن الإسلام هو دولة الأخلاق، إن الإسلام هو دولة العقيدة والسلوك والعمل.