إلا أنه قد وقع حادث عجيب غريب، من صحابي جليل، ممن لهم السبق في جهاد الكفار والمشركين، إنه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ماذا فعل حاطب؟ اسمعوا أيها الأحباب! لتعلموا أن الرجل الكبير قد يقع وقد يمر عليه وقت يصغر فيه، وقد يهلك لولا فضل الله ورحمته، حاطب بن أبي بلتعة صحابي جليل ممن شهدوا بدراً، وقع في خطأ كبير متأولاً، كما قال الحافظ ابن حجر ما هو خطؤه؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يكتموا الخبر، وأن يخرجوا في سرية تامة، ليدخل مكة بدون أدنى قتال، لا يريد أن يسفك دماً في بلد الله الحرام، إلا أن حاطباً رضي الله عنه وغفر الله له، قد تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه بخروج رسول الله إليهم، إلا أن من يسمع ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أخبر رسوله بكتاب حاطب، واستدعى النبي على الفور علياً والزبير والمقداد وأخبرهم بخبر كتاب حاطب بن أبي بلتعة، بل وحدد لهم النبي المرأة التي أعطاها حاطب الكتاب لتوصله إلى قريش، نظير مكافأة لها على توصيله، وحدد لهم النبي مكانها على الطريق إلى مكة شرفها الله.
والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد -أي: المقداد بن الأسود - وقال لنا: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ -اسم المكان الذي سيجدون فيه المرأة- فإن بها ضعينة -والضعينة هي المرأة في الهودج- معها كتاب فخذوه منها، يقول علي: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا -أي: تسابق خيلنا الرياح- حتى وصلنا وأتينا روضة خاخ، فإذا نحن بالضعينة، فقلنا لها: أخرجي الكتاب! قالت: ما معي من كتاب! وفي رواية غير رواية الصحيحين: أنهم فتشوا الهودج فلم يجدوا فيه شيئاً، فقال علي: والله ما كذب رسول الله، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك من الثياب، فلما رأت المرأة منهم الجد قالت له: أعرض.
يا سبحان الله! فأعرض علي رضي الله عنه، فحلت المرأة قرون رأسها -أي: ضفائر رأسها- فأخرجت من رأسها كتاب حاطب رضي الله عنه، فدفعته إلى علي بن أبي طالب، فانطلقوا مسرعين حتى أتوا به رسول الله في المدينة، ففتحه فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى بعض الناس في قريش، يخبرهم فيه ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه إليهم.
فاستدعى النبي حاطباً رضي الله عنه وقال: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله! فوالله ما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكني ما فعلت ذلك إلا لأنني أردت أن أقدم لي يداً في مكة يحمون بها قرابتي بعد ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم.
فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم.
وفي رواية: فذرفت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم).
وهكذا -أيها الأحباب- غفر لـ حاطب ماضيه المشرف في قتال المشركين والمنافقين، بل وأمر النبي الناس ألا يذكروا حاطباً إلا بما فيه من خير، وهنا تتجلى وتتألق عظمة ورحمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ما كان قط عوناً للشيطان على أصحابه، بل والله ما جاء إلا عوناً لهم على الهدى والتقى والجنة.
وهكذا أخذ الله العيون والأخبار؛ فلم يصل خبر إلى قريش، وبدأ الجيش الزاحف يتحرك من المدينة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.