أيها الأحبة! حرب منذ اللحظات الأولى، وستستمر استمرار الصراع بين الحق والباطل، فهذه هي طبيعة الطريق، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر الموضوع.
أيها الأحبة! أيها الشباب! أيتها الأخوات المنتقبات العفيفات الفاضلات! يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! إن طريق الدعوة إلى الله طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، إن طريق الأنبياء ليس ممهداً بالورود والزهور والرياحين، كلا كلا.
ولكنه طريق طويل شاق حافل بالعقبات والأشواك، مليء بالفتن والمحن والابتلاءات، يعوي على جانبيه الذئاب من المجرمين والمشركين والمنافقين، ممن لا يريدون لهذا النور أن ينتشر، ولا يريدون لهذا الخير أن يعم الأرض والآفاق، هذه طبيعة الطريق لابد من معرفتها.
أنا لا أسوق هذه المرحلة الطولية من مراحل الدعوة لمجرد الرصف التاريخي فحسب، كلا إنما لنعرف هذه المرحلة ولنستوعبها ولنفهمها فهماً شمولياً كاملاً، لينطلق الدعاة والسائرون على طريق الدعوة بعد ذلك من ذاك المنطلق الذي انطلق منه صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، وليقيم الدعاة والمسلمون بنيانهم من جديد على الأساس الذي أقام عليه البنيان محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ليعرف كل سالك للطريق طبيعة الطريق حتى لا ينحرف عن الطريق عند أول منعطف من المنعطفات، فلا يتخلى عن الطريق عند أول فتنة من الفتن أو عند أول محنة من المحن أو عند أول ابتلاء من الابتلاءات.
يتعرض الشاب لابتلاء خطير، فسرعان ما يحلق اللحية، وتتعرض الفتاة لمحنة طفيفة فسرعان ما تتجرد من لباس العفة والشرف فتخلع النقاب، ويتعرض المسلم لمحنة فيتخلى عن الطريق، فإذا ما نودي عليه: يا شيخ فلان! يقول: لست اليوم شيخاً، إن أردت أن تنادي فقل: يا كابتن فلان! لا يريد أن ينادى عليه بهذا اللفظ.
يأتي أحدهم من بلد ما ويقال له: ستتعرض في المطار لبعض الأذى، فقد تقف في المطار عشر ساعات.
فيقول: لا أطيق ذلك.
فيتجرد في التو واللحظة من وسام السنة والشرف ويحلق اللحية! صار الدين رخيصاً جداً عند كثير ممن ينتسبون إلى الدين، من أجل التجارة يتخلى عن دينه، من أجل الدنيا يتخلى عن دينه والتزامه، أصبح الدين رخيصاً، فكثير ممن يردد الآن ألفاظ الدعوة.
العقيدة.
الدين.
الالتزام إن تعرض لمحنة -وهو لا يعرف طبيعة الطريق- يتخلى عن الطريق، ويضع الأمانة بلا أمانة، نموذج متكرر في كل حين وجيل، نموذج يزن العقيدة والدعوة بميزان الربح والخسارة، فإن حقق ربحاً من سيره على طريق الدعوة فهو مع السائرين، وإن تعرض لمحنة تخلى عن الطريق وتركه فخسر الدنيا والآخرة.
قال جل في علاه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
فلابد على الطريق من المحن، ولابد على الطريق من الابتلاءات، لابد من محنة في الشيشان، ولابد من محنة في كشمير، ولابد من محنة في فلسطين، ولابد من محنة في أفغان، لابد من محنة في كل مكان، لابد من محن فردية للأفراد هنا على الطريق، ليس عذاباً من الله على أصحاب الدعوات، كلا كلا، وإنما لابد من المحن والفتن والابتلاءات على طول طريق الدعوة ليميز الله بهذه الفتن أصحاب الدعوات الحقة من أصحاب الدعاوى الزائفة، فلن يثبت على طريق الدعوة إلا الصادقون، مهما كانت الفتن ومهما كانت الابتلاءات.
وسيترك الطريق مع أول محنة المهرجون والكذابون والخادعون والمضللون؛ لأنهم لا ينبغي أن يكونوا أصحاب دعوة ولا يستحقوا أن يكونوا أمناء على منهج، فلابد من طردهم من الصف، حتى لا يثبت على الصف إلا الصادقون المؤهلون لرفع الراية والسير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم، {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
هذه طبيعة الطريق، ولقد احتاج النبي -وهو صاحب الدعوة- إلى أن ينادي عليه ربه جل جلاله، ويأمره ربه بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، ومن ثم يأتي الأمر من الله للمؤمنين الصادقين السائرين على درب النبي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت أنه أتى إلى النبي بعدما اشتد الإيذاء والعذاب، والرسول جالس عند الكعبة، فيقول خباب: (يا رسول الله! ألا تستنصر الله لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟)، تصور حجم العذاب وشدة المأساة من خلال طلب خباب.
وهذا حال كثير من شبابنا الآن: اشتد البلاء، وانتشر الباطل، وضعف الحق، وضاعت العزة، أين الاستخلاف؟ أين التمكين؟ إلى آخر هذه الكلمات التي تنم عن قلوب مريضة وعن يأس وقلق، ولا أريد أن أقول: عن شك في كلام الله ورسوله.
قال: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد النبي وقد احمر وجهه وظهر الغضب عليه، وقال: (والذي نفسي بيده! لقد كان الرجل من قبلكم يؤتى به، فيوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظم واللحم ما يصده ذلك عن دين الله، والله ليتمن الله هذا الأمر -أي: هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، نعم (ولكنكم تستعجلون) قالها النبي لأصحابه، وأنا أكرر قول النبي لأصحابي وأحبابي وإخواني من المسلمين والمسلمات فأقول: والله إنكم تستعجلون! أيها الشباب! إياكم أن تظنوا أن الله لا يسمع ولا يرى، إياك أن تظن -أيها الشاب- أنك أرحم بالمعذبين المشردين هنا وهنالك من رب العالمين، ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله، إذاً فلماذا هذا؟ لأن الأمة لا تستحق النصرة الآن، وصدق ربي إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وصدق ربي إذ يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
إنَّ الأمة غيرت في جانب العقيدة، وفي جانب العبادة، وفي جانب الشريعة، وفي جانب الأخلاق، وفي جانب المعاملات والسلوك، غيرت الأمة كثيراً، وإن لله في الكون سنناً ربانية لا تحابي أحداً من الخلق مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قائد المعركة في أحد، فلما تخلى بعض الصحابة عن أسباب النصر كان ما نعلم، فالله لا يحابي أحداً من الخلق، فالأمة ليست الآن مهيأة للنصر، بل لا تستحق النصر لسنن الله الربانية في الكون، إلا إذا عادت مرة أخرى لتردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
كما أن الله جعل الابتلاء سنة جارية للتمحيص وتمييز الصف، فإن الله قد جعل انتصار الحق في النهاية سنة جارية ثابتة، وهذا هو عنصرنا الثالث والأخير (انتصار الحق سنة جارية)، وأرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.