لما رأى النبي أن أرض مكة أرض صلبة لا تتلقى بذرة التوحيد والإيمان تركها وانطلق يبحث عن أرض جديدة، يبحث عن أمل، يبحث عن يد حانية تحمل راية التوحيد، يبحث عن قلوب صافية تحمل نور العقيدة، فانطلق إلى الطائف -وهو لا يجد راحلة- يمشي على قدميه المتعبتين الداميتين مسيرة تسعين كيلو متراً لا يركب راحلة ولا دابة حتى وصل إلى الطائف، ثم عرض دعوته على أهل الطائف وهم سادة ثقيف، ولكنهم ردوا النبي رداً منكراً، بل ولم يكتف سادة ثقيف بهذا الرد المنكر، وإنما سلطوا عليه السفهاء والعبيد فرموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة، حتى اضطروه إلى بستان لـ شيبة وعتبة ابني ربيعة.
لك أن تتصور في هذه اللحظات حال الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جوع وعطش، صاحب دعوة مطارد، بل ودعوة مشردة، وأصحاب مطاردون في الحبشة، وآخرون معذبون في مكة، هذه طبيعة الطريق أيها الشباب! حال تتمزق لها القلوب الحية، فارتفعت هذه الدعوات وهذه الكلمات الحارة الرقراقة التي تجسد حجم الفجيعة وشدة الألم وحرارة المأساة، قال رسول الله: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
هذا دعاء رقراق جميل، وإن كان شيخنا الألباني -من باب الأمانة العلمية- قد ضعف إسناده، إلا أن الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد قال: وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة.
بل قد وقفت على شاهد له من رواية محمد بن كعب القرظي، وهو تابعي ثقة.
أيها الأحبة! هذه كلمات تجسد الأمل، وتبين الفجيعة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى لأهل الطائف إلا وهو يحمل في قلبه أملاً، ويتمنى أن يجد من أهل الطائف من يرفع راية التوحيد، ويتمنى أن يجد قلوباً صافية تلتقط نور (لا إله إلا الله)، ولكنهم فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أسوأ وأقبح مما فعله به أهل مكة، ويرجع النبي وهو مهموم، فما استفاق من الهم والحزن إلا بعد مسافة طويلة من الطائف، كما في الصحيحين من حديث عائشة.
وتذكروا -يا شباب! - هذا الحديث العجيب الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال الحبيب: (لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال -وهو من أشراف أهل الطائف- فلما لم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، لم يستفق النبي من الهم الذي يمزق كبده والألم الذي يحطم فؤاده، فالدعوة مشردة، وصاحب الدعوة مطارد، وأصحابه في الحبشة، ومنهم من يعذب في مكة، وفي نفس العام ماتت خديجة، وفي نفس العام مات أبو طالب الذي كان يشكل حائط صد منيع طالما تحطمت عليه سيوف ورماح أهل الشرك، ألم ومأساة.
يقول: (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، وإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام) أشفقت الحجارة لحال رسول الله سيد الرجال، بل واستعدت الجبال لتنتقم من المشركين ولتمتثل لأمر رب العالمين، تصور وعش بقلبك وكيانك هذا المشهد، يقول: (فرفعت رأسي وإذا بسحابة قد أظلتني ورأيت فيها جبريل عليه السلام، فنادى عليَّ جبريل وقال: السلام عليك يا رسول الله لقد سمع الله قول قومك لك وما ردوا به عليك، وإن الله تعالى قد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
يقول: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ وقال: يا محمد! لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت)، والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة يقال للأول: أبو قبيس ويقال للثاني: الأحمر.
فماذا قال له نبي الرحمة وينبوع الحنان؟ ماذا قال الرحمة المهداة -بأبي هو وأمي-؟ وما زالت دماؤه تنزف، ولكنه ما غضب لنفسه قط، وما انتقم لنفسه قط، ولو خرج النبي إلى الطائف ليحصِّل كسباً مادياً ونفعاً شخصياً لأمر ملك الجبال ليحطم الرءوس الصلبة والجماجم العليلة، بل ولسالت دماء كالبحور والأنهار من الطائف ليراها أهل مكة بمكة، ولكن ماذا قال المصطفى لملك الجبال؟ قال: (لا، إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، بأبي هو وأمي! أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد ألم يقل ربنا لنبينا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؟! ألم يقل ربنا لنبينا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]؟! ألم يقل ربنا في حق نبينا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]؟! (إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئاً)، هذه كلمات النبي صلى الله عليه وسلم، هذه كلمات صاحب الدعوة، هذه كلمات صاحب القلب الكبير، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وعاد النبي إلى مكة مرة أخرى، وهنالك اشتد الإيذاء، واشتدت حلقات الحرب، بل لقد انعقد البرلمان الشركي في مكة ليتخذ أخطر قرار في التاريخ البشري كله، ليتخذ قراراً بالإجماع لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، لقطع تيار نور الدعوة عن الوجود نهائياً، ولكن الله سلم، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، ونجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وهاجر النبي من مكة إلى المدينة.