فضل عمر

بعض الناس يسب عمر الفاروق الأواب التواب، أيسب الفاروق عمر؟ عمر الذي قدم للناس أسوة لا تبلى ولن تفنى، إنها قدوة تتمثل في رجل كبير أتت الدنيا كلها على عتبة داره بأموالها وذهبها وزخرفها وسلطانها، بأموال كسرى وبأموال قيصر، خضعت كل هذه الزخارف تحت رجل عمر وتحت قدم عمر، فوالله ما تغير، بل قام وسرحها سراحاً جميلاً، وطلقها طلاقاً لا رجعة فيه، قام ليدرأ عن الناس فتنها وشبهاتها ومضلاتها، وقام لينثر في الناس من هذا المتاع الدنيوي خيراً، ثم لما نفض يديه من هذا المتاع الدنيوي الحقير الزائل قام ليستأنف سيره.

وانظر إليه، ستراه هنالك بعيداً يجري تحت حرارة شمس محرقة تذيب الصخور والحديد والحجارة، وينظر إليه عثمان ويتساءل: من هذا الذي خرج في هذا الجو القائظ القاتل؟ ولما دنا منه فإذا به أمير المؤمنين، إنه عمر بن الخطاب! وينادي عليه عثمان: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الجو القائظ؟ فيقول عمر الورع التقي النقي الفاروق الأواب العدل: شرد بعير -جمل- من إبل الصدقة -يا عثمان - وأخشى عليه الضياع فيقول عثمان: تعال إلى الظل يا أمير المؤمنين! وتعال إلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتيك بهذا البعير الشارد، فيقول عمر: عد إلى ظلك، عد إلى مائك البارد يا عثمان أأنت ستسأل عنه أمام الله يوم القيامة؟ وتراه هنالك في موكب آخر قد حنى رأسه، ذلك الرأس العظيم الذي تطاول -ورب الكعبة- ليعانق كواكب الجوزاء، أو إن شئت فقل وأنت صادق: التي تواضعت كواكب الجوزاء لتُشَرِّف من قدرها وهي تتوج رأس عمر، عمر يحني رأسه تحت قدر على نار مشتعلة، وينفخ عمر لينضج طعمة طيبة لأطفال يبكون من شدة الجوع.

وتراه هنالك يأخذ امرأته وهي زوجة أمير المؤمنين، فإلى أين يا أمير المؤمنين؟ إلى أين تأخذ امرأتك في هذا الجو المظلم الدامس؟ إلى امرأة مسلمة أدركها كرب المخاض تضع ولا تجد من يساعدها، فيأخذ عمر امرأته لتساعد مسلمة من المسلمين، إنه عمر! وتراه هنالك يمشي ليتفقد أحوال الناس، فيرى إبلاً سمينة عظيمة فيقول عمر: ما شاء الله! إبل من هذه؟ فيقول الناس: إبل عبد الله بن عمر.

وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوف عمر، فقال: إبل عبد الله بن عمر! ائتوني به.

فيأتي عبد الله بن عمر، ومن هو عبد الله بن عمر؟! إمام الزهد، وإمام الورع والتقى، وقائم الليل، وصائم النهار، فيأتي عبد الله ويقف بين يدي والده فيقول له عمر: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فيقول: إبل اشتريتها وهي هزيلة بخالص مالي يا أمير المؤمنين، وتركتها في الحمى لترعى أبتغي ما يبتغيه سائر المسلمين من الربح والتجارة.

فيرد عمر: بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين! إذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين.

فتسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين.

قال: مرني يا أبت قال: انطلق الآن فبع الإبل وخذ رأس مالك فقط، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين.

سبحانك يا خالق عمر! سبحانك يا خالق عمر! سبحانك يا خالق عمر! سبحانك هل يسب هذا؟! هل يسب عمر؟! هل يسب الذي قدم لأهل الأرض قدوة يجب على كل مسلم أن يفخر بها؟ وأن يرفع رأسه أنه ينسب لـ أبي بكر وينسب لـ عمر وينسب لـ عثمان وينسب لـ علي.

هل يسب عمر؟! هل يسب عمر الذي قال النبي في حقه -والحديث في سنن الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر -: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، شهادة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ليست شهادة من هيئة اليونسكو، ولا من هيئة الأمم، ولا من منظمة مشبوهة خبيثة، ولا من ناد من أندية الروتاري أو الماسونية، بل إن الذي يضع هذا الوسام على صدر عمر هو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال المصطفى: (بينا أن نائم إذ رأيتني في الجنة، يقول: ورأيتني إلى جوار قصر وإلى جواره جارية تتوضأ، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر بن الخطاب، فتذكرت غيرتك -يا عمر - فأعرضت -يعني: أعرضت عن النظر إلى الجارية التي بجوار قصرك- فبكى عمر وقال: أومنك أغار يا رسول الله؟).

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص -جمع قميص- منها ما يبلغ الثديا -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، إذ عرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره.

قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين).

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (بينا أن نائم إذ أتيت بقدح لبن فشربت، حتى أني أرى الري يخرج من بين أظفاري ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى في القدح من اللبن -لـ عمر بن الخطاب قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم).

وأختم بهذا الحديث الذي في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله -يعني: زادك الله سروراً، ولم يقل: لماذا تضحك يا رسول الله؟ -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللائي كن عندي، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب.

قال عمر: فأنت -يا رسول الله- أحق أن يهبن.

قال عمر: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟ قلن: نعم.

أنت أفظ وأغلظ من رسول الله.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً -أي: تمشي في طريق- إلا سلك فجاً غير فجك).

يا خالق عمر سبحانك، هذا ما أستطيع أن أعلق به، والله إننا الآن لفي أمس الحاجة إلى عمر ليطهر شوارعنا من الشياطين التي ملأتها، (لو رآك الشيطان سالكاً فجاً لتركه وسلك فجاً غير فجك).

ثم بعد ذلك يسب عمر الذي أذل كسرى، عمر الذي أهان قيصر، عمر الذي أعز الله عز وجل به الإسلام قديماً وحديثاً، إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، وهل يسب عثمان؟ وهل يسب علي؟ أكمل بعد جلسة الاستراحة فأراني قد أطلت، وها هي عقارب الساعة تطاردنا، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجزي عنا أصحاب سيد الرجال خيراً، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015