وهذا هو نعيم بن مسعود، رضي الله عن نعيم: ذلكم الفدائي البطل الذي جاء إلى المصطفى في وقت عصيب رهيب، كادت القلوب أن تخرج من الصدور في غزوة الأحزاب، أحاط المشركون بالمدينة من كل ناحية من حول الخندق، وفي لحظات حرجة قاسية نقض يهود بني قريظة العهد مع رسول الله، وشكلوا تهديداً داخلياً خطيراً على النساء والأطفال، وتعاهدوا مع المشركين على أن يحاربوا محمداً معهم.
وهذا هو فعل اليهود، وهذه هي صفتهم، فاليهود لا يجيدون إلا الغدر ونقض العهود، نقضوا العهد مع رسول الله في وقت حرج، ولك أن تتصور الحالة النفسية التي مر بها المصطفى مع أصحابه، وقد وصفها الله في القرآن وصفاً دقيقاً بليغاً، تدبر معي قول الله لهذه الحالة: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:10 - 12].
تصور هذه الحالة! ممن مع رسول الله من يقول: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، المشركون يحيطون بنا، واليهود نقضوا العهد وسيدمروننا من الداخل، ويقتلون نساءنا وأطفالنا، حالة قاسية! حتى قام المصطفى ليتضرع إلى الله: (اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)، تصور معي هذه الحالة، وفي هذا الوقت الحرج جاء نعيم بن مسعود رضي الله عنه، لماذا؟ أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فالتفت إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال: (ما جاء بك يا نعيم؟ قال: جئت أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن ما جئت به هو الحق.
ابسط إلي يديك لأبايعك يا رسول الله!) فبايعه المصطفى، وشهد نعيم شهادة التوحيد، وعلى الفور قال لرسول الله: (يا رسول الله! مرني بما شئت؛ فوالله لا تأمرني بشيء إلا قضيته؛ فإنه لا يعلم أحد من القوم بإسلامي، فقال له المصطفى: يا نعيم! إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة) فانطلق نعيم، ولم يضع النبي له تفاصيل خطة، بل أمره أمراً عاماً: (خذل عنا ما استطعت)، وانطلق نعيم الذي استشعر مسئوليته تجاه هذا الدين، الرجل في مأزق! في فتنة! الإسلام يتعرض لخطر! فلماذا لا أبذل؟! لماذا لا أقدم؟! فكر هذا الفدائي الذي لم يمض على دخوله في دين الله إلا دقائق، ولكنه يستشعر مسئوليته لدين الله، الأحزاب يحيطون بالمدينة، ورسول الله في فتنة خطيرة فليبذل دمه، فليبذل روحه، وهاأنتم ترون الآن الإسلام والمسلمين في محنة، ومع ذلك منا -والله- من لا يفكر في أن يبذل شيئاً لدين الله لا في ليل أو نهار، حتى لو دعونا الناس لمجرد الإنفاق، ترى التقاعس، هذا مسجد مثلاً لله جل وعلا ترون فيه الطابق الثاني منذ متى ونحن نشيده؟ منذ متى ونحن ندعو لتشييده وبنائه؟ والناس يقفون الآن في الشمس، ومع ذلك سيسمع كثير منا هذا اللقاء، وفي جيبه الأموال من فضل الله وسيمضي ولن يساهم ولو بالقليل وكأن الأمر لا يعنيه، لماذا؟ لأن قضية العمل لهذا الدين أصبحت تتمثل في حسه في الخطبة والمحاضرة والندوة، هذا هو العمل للدين، لا، العمل لا ينتهي لدين الله عند خطبة الجمعة، أو عند محاضرة لشيخ، أو عند ندوة لعالم، بل إن الدين يحتاج إلى كل جهد، ولو كان هذا الجهد قليلاً!! نعيم بن مسعود انطلق يفكر كيف يعمل لدين الله.
فتدبروا معي يا شباب، تدبروا معي؛ حتى لا يأتي شاب، فيقول: ماذا أفعل؟ ما دوري؟ لا مانع من أن تستأنس، وأن تسأل إن استشكلت عليك مسألة؛ لكن فكر لدين الله، كيف تعمل وكيف تبذل انطلق نعيم إلى يهود بني قريظة فقال: لقد جئتكم أبذل لكم النصيحة فاكتموا عني.
فقالوا: قل يا نعيم! قال: تعلمون ما بيني وبينكم.
قالوا: لست عندنا بمتهم، وأنت عندنا على ما نحب من الصدق والبر.
فقال نعيم: إن أمر هذا الرجل بلاء، يقصد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد استحل نعيم من رسول الله أن يقول ما شاء، فقال له المصطفى: (قل فأنت في حل).
فقال: إن أمر هذا الرجل بلاء، أنتم ترون -يا يهود بني قريظة- ما فعل بيهود بني قينقاع وبني النظير، ولستم كقريش وغطفان، فإن قريشاً وغطفان قد جاءوا من بلادهم ونزلوا حول المدينة، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كانت الأخرى عادوا إلى ديارهم وبلادهم وأموالهم، وانفرد بكم محمد؛ ليفعل بكم ما فعل بيهود بني قينقاع وبني النظير، فأنا جئت لكم اليوم أبذل لكم النصيحة.
قالوا: ما هي يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا مع قريش وغطفان حتى تأخذوا سبعين رجلاً من أشرافهم، تستوثقون بهم منهم أنهم لن يبرحوا المدينة حتى يقتلوا محمداً، وحتى يريحوكم من شره.
قالوا: نعم الرأي يا نعيم.
قال: اكتموا عني هذا؛ فإني ناصح لكم.
قالوا: نفعل.
فتركهم نعيم الفدائي البطل، وذهب إلى قائد جيوش الشرك أبي سفيان وقال: يا أبا سفيان! تعلم الود الذي بيني وبينك.
قال: نعم، يا نعيم.
قال: لقد جئتك الآن بنصيحة.
قال: ابذلها! قال: ألا تعلم يا أبا سفيان أن يهود بني قريظة قد ندموا على نقضهم للعهد مع محمد بن عبد الله وذهبوا إليه وقالوا: بأننا لن نقاتل مع قريش ضدك، ولنثبت لك صدقنا سوف نرسل إليك سبعين رجلاً من أشراف قريش وغطفان لتقتلهم، لتعلم أننا قد ندمنا على نقضنا للعهد معك.
ففزع أبو سفيان! فقال نعيم: إياك أن تسلم اليهود رجلاً واحداً من أشرافكم.
قال: أفعل يا نعيم، وشكر له هذه النصيحة الغالية.
وتركه وذهب إلى غطفان، فقال لهم مثلما قال لـ أبي سفيان، وفي الوقت نفسه أرسل اليهود إلى قريش وغطفان ليقولوا: ادفعوا إلينا سبعين رجلاً من أشرافكم؛ لنستوثق بهم أنكم لن تبرحوا المدينة حتى تقاتلوا معنا محمداً، ولن تدعونا؛ لينفرد محمد بقتالنا.
فقالت قريش وغطفان: صدق -والله- نعيم، كذب اليهود عليهم لعائن الله، ولما رفض القرشيون أن يسلموا اليهود الأشراف، وعاد الرسل لليهود قالوا: صدق -والله- نعيم، إنهم يريدون أن ينصرفوا؛ لينفرد محمد بقتالنا، فخذل الله عز وجل بين قريش وغطفان، وبين اليهود على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، واستراح قلب النبي داخل المدينة؛ لأن اليهود قد نقضت العهد مرة أخرى مع قريش وغطفان، وقد انشغل قلبه، وانشغلت قلوب أصحابه على ذراريهم ونسائهم وأموالهم داخل المدينة، وهم قد خرجوا ليحاصروا المدينة من الخارج في مواجهة الصف المشرك الذي خندق حولها.
على يد رجل ثبت الله جيشاً، ما وضع النبي صلى الله عليه وسلم له بنود هذه الخطة، بل فكر وعلى قدر الإخلاص والصدق يكون التوفيق من الله جل وعلا.