الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أحبتي في الله! عنوان لقائنا هذا (لا تحسبوه شراً لكم)، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجليل في العناصر التالية: أولاً: واقع مر أليم، وكل شيء في الكون لا يقع إلا بقدر.
ثانياً: دروس من التاريخ.
ثالثاً: والعاقبة للمتقين.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: واقع أليم، ولا يقع شيء في الكون إلا بقدر.
أحبتي في الله! أرى رياحاً عاتية من القنوط واليأس تعصف بقلوب كثير من المسلمين بسبب هذا الواقع المر الأليم، ومن هذه الرياح العاتية: أن هناك قلوباً قلقة، وقلوباً متشككة في قدر الله سبحانه وتعالى، وفي علم الله وحكمته، وإن لم يستطع الواحد من هؤلاء أن يعبر بلسانه عن هذا الواقع المر الأليم ويمنعه خجله وحياؤه، فقد يعبر عن ذلك بلسان الحال، فيطحن الواقع الأليم قلبه إلى حد التشكك في قدر الله سبحانه وحكمته، فيقول أحدهم بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال: ألا يسمع الله بكاء الأطفال في فلسطين؟! ألا يرى الله الدماء التي تسفك والأشلاء التي تمزق؟! ألا يسمع الله صراخ الأقصى وأنينه؟! ألا يسمع الله ويرى هذا الواقع المر الأليم لإخواننا في فلسطين؟! وقد تخلى أهل الأرض عنهم، إلا من رحم الله جل وعلا من أفراد قلائل يتألمون بآلامهم، ويعانون لمعاناتهم، ألا يسمع الله ويرى صراخ هذه البنت المسكينة التي هدم بيتها، وقتل والدها وقتلت أمها، وهي تصرخ أمام العالم كله؟! بل وتنادي المسلمين في كل مكان وتقول: أيها المسلمون! أين أنتم؟! وتقول: أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أبي قلبه خفاق أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة وسرى بها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق وتأتي بعده أنفاق فمدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق فأمام قدرة ربنا تتضاءل الأنساب والأعراق فأين العزة؟! وأين النصرة؟! وأين الاستخلاف؟! أولم يقل الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]؟! أولم يقل الله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]؟! أولم يقل الله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]؟! أولم يقل الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]؟! إلى آخر هذه الآيات.
فأين العزة أيها المشايخ؟! وأين الاستعلاء؟! وأين التمكين لأهل الإيمان في الأرض؟! وأين النصرة؟! وأين السبيل للمؤمنين على الكافرين؟ والكافرون الآن قد أذلوا المسلمين ذلاً لا ذل بعده، وقد أهانوا المسلمين مهانة لا مهانة بعدها.
و صلى الله عليه وسلم مع هذا الواقع المر الأليم أقول: اعلموا يقيناً بأنه لا يقع شيء في كون الله إلا بقدر وعلم وحكمة، والله يسمع ويرى، ولسنا بأرحم بالمستضعفين من الله، ولسنا بأرحم بآهات المتألمين من الله، فالله يسمع ويرى، ولا يقع شيء في كونه إلا بقدره، وإلا بعلمه وحكمته، والإيمان بالقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ولا يصح إيمانك إلا إذا آمنت بالقدر خيره وشره، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي خيثمة قال: كان أول من قال في القدر -أي: بنفي القدر- بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي: أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -أي: يبحثون عن غوامض العلم وخوافيه ودقائق مسائله- وذكر من شأنهم: ويزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، -أي: لا يعلم الله الأشياء إلا بعد وقوعها وحدوثها- فقال ابن عمر رضي الله عنهما: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم قال ابن عمر: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) الحديث وفيه أن هذا السائل الكريم سأل رسول الله عن الإيمان، فقال: (ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، فكل شيء في الكون بقدر، ولا يقع إلا بعلم وحكمة، وإن غابت عنا الحكمة فإن الله العليم يعلمها، وإن غابت عنا الحكم في أقدار الله وفي محن الله وابتلاءاته للمسلمين فإن الله جل وعلا يعلم الحكمة من وراء كل محنة، ويعلم الحكمة من وراء كل بلاء، ويعلم الحكمة من وراء كل قدر، فالله عليم حكيم، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
وقال جل وعلا: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]، فما من ورقة في شجرة أو نخلة على ظهر الأرض تسقط إلا بعلمه، وإلا بقدره سبحانه، وما من شجر على ظهر الأرض إلا ويعلمه الله، وما من نهر ولا بحر على سطح الأرض إلا ويعلم الله ما في قعره، ولا يغيب عن سمعه وبصره وعلمه شيء، وإن وقع شيء في كونه فبقدر وبحكمة، وكيف ننسب الحكمة لحكماء البشر في أقوالهم وأفعالهم وننفي الحكمة عن خالق البشرية في أقواله وأفعاله؟! أيها الأخيار! إنما هو قدر الله، وهو واقع بعلم الله وحكمة الله جل جلاله، ولابد لكل مسلم من الإيمان بهذا حتى لا تعصف رياح القنوط بقلبه، وحتى لا تهب رياح الشكوك على إيمانه في صدره، قال جل جلاله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] أي: لم يتشككوا، ولم تعصف رياح الشك بإيمانهم قط، بل إن إيمانهم بالله جل جلاله، وإيمانهم بالقدر خيره وشره، وإيمانهم بالعليم الحكيم إيمان ثابت كثبوت الجبال الرواسي؛ لا تزلزله الفتن، ولا تعصف به المحن، وأن كل شيء يقع في الكون إنما هو بقدر الله وعلمه وحكمته.
وقد اخترت هذا العنوان الكريم: (لا تحسبوه شراً لكم)، لأؤكد لكم الخير المخبوء في المحن والفتن، وهذا على قدر علمي وإلا فقد يعلمنا الله حكماً في محنه وابتلاءاته، وقد يحجب عنا حكماً فلا يعلمها كثير من البشر، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: دروس من التاريخ.