وأما الذين يستجيبون لنداء الفطرة في كل زمان ومكان فهؤلاء يقرون حتماً بأن لهذا الكون إلهاً ورباً حكيماً عظيماً جل جلاله، تتجه قلوبهم إليه سبحانه وتعالى بالتعظيم، والرجاء، والخشية، والتفويض، والتوكل، والإنابة والعبادة بصفة عامة، ويشعرون بخالق هذا الكون، ويتجهون إليه سبحانه بفطرهم السليمة النقية التي لم تعكرها الماديات والشبهات والشهوات، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
لكن هذا الصوت - أعني: صوت الفطرة - قد يخفت في قلب وعقل إنسان، أو قد يكبت هذا الصوت صاحبُه عمداً عن كبر، فالمشركون لم ينكروا أن الله عز وجل هو الخالق، بل كفروا به سبحانه وتعالى كبراً وعناداً، كما قال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].
وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14] فهؤلاء يقرون بهذه الحقيقة، لكنهم قد يرفضونها كبراً وعناداً -وهذا كلام مهم جداً - فالفطرة قد تخفت في قلب وعقل إنسان عن قصد وعن عمد من صاحبه، فإذا نزلت بهذا الإنسان نفسه أزمة أو أحداث مريرة أو مشكلة، واهتز هذا الإنسان أمام هذه الأزمة وأمام هذه الشدة، وخاب أمله في كل الناس من حوله، تراه ينطلق مرة أخرى مستجيباً لهذا الصوت الذي يعلو في أعماقه، ألا وهو صوت الفطرة، فيتجه مرة أخرى -رغم أنفه- لله جل وعلا.
وتدبر معي هذا الحوار النفيس الجميل! بين رجل وبين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، وقد بينت من قبل أننا لا ننكر ما لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من مناقب بدعوى أن الروافض قد رفعوهم إلى مرتبة الألوهية، ونحن لا نسقط ما لهم من مناقب بهذه الدعوى، بل نثبت لهم ما ثبت من الحق بدليله، وقد بينت ذلك وأنا أرد على الشيعة، وقلت بأنهم يتمسحون بالإمام العالم العلم جعفر الصادق وهو بريء من كل ما يؤصلونه مخالفاً لقرآن الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء من أعلم الناس ومن أكثر الناس اتباعاً لهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلقد سأل هذا الرجل الإمام جعفراً الصادق رضي الله عنه عن الله؟! فقال له جعفر: ألم تركب البحر؟! -يعني: هل ركبت باخرة أو مركباً أو سفينة؟ قال: بلى، فقال جعفر: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟! قال: نعم، قال جعفر: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم، قال: فهل خطر في بالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟! قال: نعم، قال: هذا هو الله سبحانه وتعالى.
وهذه الحقيقة تثبتها آيات كثيرة جداً في القرآن، وتدبر معي قول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر:8]، بل وتدبر آية هي أوضح من السابقة، قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء:67] ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه طبيعة الإنسان، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
فإذا كان منطق الفطرة يهدي إلى الله تعالى، والفطرة ليست وجداناً خالصاً، بل وليست عقلاً خالصاً، ولكنها مزيج بين الوجدان -وهو القلب- وبين العقل.