الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة، فنقلهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب.
أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي بعد فناء خلقه جل وعلا ويقول: أنا الجبار! أنا الجبار! أنا الجبار! أنا العزيز! أنا الكريم! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! ثم يجيب جل وعلا عن ذاته ويقول: لله الواحد القهار، سبحانه سبحانه سبحانه سبحان ذي العزة والجبروت!! سبحان ذي الملك والملكوت!! سبحان الحي الذي لا يموت!! سبحان من كتب الفناء على الخلائق ولا يموت.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
رفع الله له ذكره، وشرح الله له صدره، ووضع الله عنه وزره، وزكاه الله جل وعلا في كل شيء.
زكاه الله جل وعلا في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
وزكاه فى صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
وزكاه في خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وبعد كل هذا جعل الله جل وعلا حبيبه صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء، وإمام الأصفياء، وإمام الأتقياء، وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين، ووهبه الحوض المورود، وأعطاه اللواء المعقود، وبعد ذلك كله قال له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! فهذا اللقاء الثالث والعشرون، وما زلنا مع آيات سورة مريم، وإن كنا سنواصل الحديث مع أول جمعة من شهر رمضان في تفسير آيات القرآن الكريم، فلسنا ممن يجافي هذا الشهر العظيم، فإن شهر رمضان هو شهر القرآن؛ لقول الله جل وعلا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
فتعالوا بنا لنواصل المسيرة مع القرآن الكريم، فما أجمل أن تكون اللحظات التي نقضيها مع آيات من كتاب الله جل وعلا، مع هذا الذكر الحكيم، ومع هذا النور المبين، ومع هذا الصراط المستقيم، مع مأدبة الله جل وعلا؛ مع القرآن الكريم.