حقوق الأبناء على الآباء

كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء فإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، فكم من آباء، وكم من أمهات قد ضيعوا الأبناء! فالتربية منذ أول لحظات الحياة للأبناء مسئولية كاملة على الوالدين، بل وقبل أن يأتي الولد للحياة، فالوالد مسئول عن هذا الابن الذى لم يأت بعد، كيف ذلك؟! باختيار أمه التى يجب أن تربيه بعد ذلك على الصلاح والفضائل.

يا إخوة! أسألكم بالله أن تتدبروا معي هذه الكلمات التي سأطرحها عليكم: ماذا تقولون لو قلت لكم الآن: إن أباً قد عاد اليوم إلى داره فأخرج ورقة وكتب عليها استقالة من تربية أبنائه؟! حتماً سيتهم هذا الوالد بالجنون.

وماذا تقولون لو أن أمّاً عادت اليوم من عملها إلى بيتها، فسحبت ورقة وكتبت عليها استقالة من تربية الأبناء؟! حتماً ستتهم هذه المرأة بالجنون، بل وقد يفكر زوجها المسكين في طلاقها.

فماذا تقولون لو قلت لكم: إن نظرة صادقة إلى الواقع الذي نحياه تبين أن استقالات تربوية جماعية قد حدثت في كثير من بيوت المسلمين؟ نعم لقد استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقالت كثير من الأمهات تربوياً، فالولد ينظر إلى الوالد بأنه تسبب في تعكير حياته؛ لأنه لم يجد أبوة الأب بمعناها الواسع، لم يجد أبوة التربية، ولم يجد أبوة النصح، ولم يجد أبوة الرجولة، ولم يجد أبوة الخبرة، ولم يجد أبوة التوجيه، ولم يجد أبوة الحنان، ولم يجد أبوة العطف، ولم يجد أبوة الشفقة والإحسان.

فالوالد المسكين يظن أن دوره يتمثل في أن يكون وزيراً للمالية والنفقات، يدخل البيت فيقول: ماذا يحتاج الأولاد؟ وتقول الأم: يحتاج الأولاد كذا وكذا، فيخرج المال ثم ينصرف هائماً على وجهه للتجارات وللسفر وللترحال، بل وإذا عاد إلى بيته في آخر النهار ووجد عنده قليلاً من الوقت قتله قتلاً بالجلوس أمام المسلسلات والأفلام، ولا يفكر أن يخلو في أوقات قليلة بأولاده وزوجته.

وأنا لا أقول لك: فَرِّغ كل وقتك لولدك؛ لأنني أعلم ظروف الحياة، وأعلم الحالة الاقتصادية الطاحنة التي ترهق ظهور الآباء.

لكن أقول لك: والله! إن جلوس الأب بين أبنائه وهو صامت لا يتكلم فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالكم لو تكلم فَذَكَّر بجنةٍ، وحَذَّرَ من نارٍ، وحل مشكلة، ووجه نصيحة، وأشعر أولاده بأنه يشعر بهم وبأحاسيسهم، وسأل عن صديق الولد، وسأل عن صاحبة البنت، ونقب في حقيبة ابنته، ونقب في حقيبة ولده، ونظر إلى قصة شعر ولده، ونظر إلى البنطلون الجنز الممزق من ركبتيه الذي يلبسه ولده، فنقب عن هذه الأمور، وبذل النصيحة بحنان وبرحمة، وبأبوة حانية؟! هذه هي الأبوة في أجل معانيها، فإن الأبناء ينظرون إلى من تسبب في وجودهم، ولكنهم لا يجدون أبوة الأب بمعناها الواسع الشامل.

والله -يا أخوة- لقد جاءني في الأسبوع الماضي شاب تزين اللحية وجهة، وهذا الشاب كاد أن يبكي فقلت له: مالك؟ قال: إن أبي يقسم عليَّ بالله إن ذهبت إلى المسجد فسوف يطردني من البيت!! ثم يشكو الآباء بعد ذلك من العقوق!! أيها الوالد! أنت مسئول أن تربي نبتتك من أول لحظة.

مشى الطاووس يوماً باختيالٍ فقلد شكل مشيته بنوه فقال علام تختالون فقالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه فخالف سيرك المعوج واعدل فإنا إن عدلت معدلوه وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوه أما تدري أبانا كل قرع يجاري بالخطى من أدبوه فإن ربيت ولدك -أيها الوالد الكريم- على الفضائل والأخلاق والصلاح منذ أول لحظة من لحظات حياته، ومنذ ترعرعه في بيتك؛ شب حتماً على هذه الأخلاق.

وقد يقول لي والد: إنني قد أربي ولدي في البيت، وسيخرج إلى الشارع ليعود وقد طُمِس بناؤه الجميل، الذي اجتهدت في تزيينه وتجميله في البيت، فأقول له: أبشر واطمئن، فما دام الأصل سليماً والجوهر نقياً فسرعان ما يزول هذا الغبش الذي تأثر به ظاهر ولدك، وسرعان ما يعود إلى أخلاقه وجوهره التقي النقي الذي اجتهدت في تأصيله في بيتك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه.

أيها الوالد الحبيب! ابنك أمانة، ابنتك أمانة، فاجتهد ولا تضيع ولدك؛ فسوف تسأل عنه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل في أهل بيته راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته).

واسمع -أيها الوالد الكريم- إلى هذا التهديد والوعيد، ففي الصحيحين من حديث معقل بن يسار أن النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).

وتزداد المأساه -يا مسلمون- إذا انضم إلى استقالة الآباء استقالة الأمهات، فالأم هي الحضن التربوي الطاهر، والأم هي المدرسة الأولى للتربية، فماذا تقولون لو أغلقت المدرسة الأولى للتربية، ألا وهي مدرسة الأم، وانشغلت الأم بالمسلسلات وبالأفلام، وانشغلت الأم بالتجوال في الأسواق وبالجري وراء أحدث الموضات والموديلات، وانشغلت عن أولادها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟! تزداد المأساة إذا استقالت الأم تربوياً، بالإضافة إلى استقالة الآباء تربوياً، فيا إخوة: ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في هم الحياة ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فليس اليتيم من مات أبواه وتركاه في الحياة ذليلاً، إن اليتم الحقيقي هو اليتم التربوي، إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت عنه، أو أباً مشغولاً عنه، فماذا تقولون لو علمتم أن من الآباء من يمنع ولده من إعفاء لحيته، أو يمنع ولده من الذهاب إلى المسجد، أو يمنع ولده من الذهاب إلى مجالس العلم؟! وأسأل الله أن يجعلني من المنصفين، أنا لا أريد بعدما أصلت للوالدين من حقوق أن أقلل من شأنهما عند الأبناء، وإنما أود أن أقول لإخواني وأبنائي: قد يأمرك الوالد بذلك من منطلق الخوف عليك، وهذا هو الواقع، فالولد قرة عين أبيه، والولد ثمرة فؤاد أبيه، فإن أمر الوالد ولده بذلك فليعلم بأن المصيبة أكبر، وبأنه سيزداد خوفه بصورة أكبر، فإذا منع الولد من أن يعرف طريق المساجد، وإذا حال بين الولد وبين طريق السنة، وبين طريق الالتزام؛ فسوف يبكي الوالد دماً بدل الدمع إذا رأى ولده يحقن نفسه بحقنة مخدرات، أو يشم البانجو، أو يمشى مع فتاة في الحرام ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لذا أذكر آبائي الكرام بأن يفتحوا الباب على مصراعيه لأبنائهم؛ ليسلكوا طريق الالتزام، وليسلكوا طريق سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وليعلموا يقيناً بأن السعادة كل السعادة، وبأن الالتزام والهداية والتفوق في أمور الدنيا والآخرة لا يكون أبداً إلا إذا عرف الولد طريق الله جل وعلا، وراقب الله في سره وعلنه، فقد ينجح الوالد في مراقبة أبنائه في ساعة من ليل أو ساعة من نهار، ولكنه لا ينجح في أن يراقب أولاده طيلة الليل وطيلة النهار، فدرب ورب ولدك على أن يراقب العزيز الغفار، ورب ولدك على القرآن والسنة.

وقد يقول لي والد كريم من آبائنا الطيبين: فماذا سيكون جوابك إذا سألتك وقلت: إن الوالد نفسه يحتاج إلى أن يتعلم هو القرآن والسنة؟

و صلى الله عليه وسلم حياك الله، ثم حياك الله أنت وأولادك جميعاً في المساجد؛ لتجلسوا بين أيدي العلماء المتحققين بالعلم الشرعي، لتتعلم أيها الوالد الكريم مع ولدك كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أيها الآباء الكرام! إن للوالدين حقوقاً على الأبناء، وإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، وإن من الآباء من يقع في عقوق ولده قبل أن يعقه ولده.

جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: (يا أمير المؤمنين! أشكو إليك عقوق ولدي، فقال: ائتني به، فجاء الولد إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمر: لمَ تعق أباك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين! ما هو حقي على والدي؟ فقال عمر: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك، وأن يعلمك القرآن.

فقال الولد: والله ما فعل أبي شيئاً من ذلك، فالتفت عمر إلى الوالد وقال: انطلق؛ لقد عققت ولدك قبل أن يعقك).

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الصادقين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأسأل الله أن يشفينا، وأن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يتقبل منا صالح الأعمال.

وأخيراً: إنها مسئولية الجميع، أرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015