مواقف فيها توبيخ وتقريع وأثرها في التربية

نرجع مرةً أخرى إلى المسألة التي سبق أن قلنا: إن الإنسان أحياناً أو صاحب العلم يحتاج إلى موقف أو يكون في موقف يتعامل فيه مع جاهل أو سفيه، وتقتضي القضية أحياناً شيئاً من التقريع والتوبيخ، لكن إذا كانت ممن يقبل كلامه فإنها تكون فائدة تربوية مؤثرة؛ لأن بعض الناس لا يقبل منهم لو قال.

جلس أعرابي إلى يزيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني -أعرابي جاهل- وإن يدك لتريبني -يتهم الشيخ بأن يده يد سارق- فقال يزيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال يزيد بن صوحان: صدق الله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97].

فالموقف -أحياناً- يحتاج إلى شيء من التقريع والتوبيخ لأمثال هؤلاء السفهاء.

ومن أمثلة هذا أيضاً: أن رجلاً جاء إلى أبي عبيد وهو من كبار علماء اللغة، وكان -رحمه الله- فقيهاً، وهو صاحب كتاب الأموال، فسأله عن الرباب فقال: أريد أن أعرف معنى الرباب.

فقال: هو الذي يتدلى دوين السحاب -تحت السحاب بقليل- وأنشده بيتاً لـ عبد الرحمن بن حسان:

كأن الرباب دوين السحاب نعام تعلق بالأرجل

فقال: لم أرد هذا -ليس هذا مقصودي- قال أبو عبيد: فالرباب اسم امرأة، وأنشد:

إن الذي قسم الملاحة بيننا وكسا وجوه الغانيات جمالا

وهب الملاحة من رباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا

فقال: لم أرد هذا أيضاً، فقال أبو عبيد: عساك أردت قول الشاعر:

رباب ربة البيت تصب الخل في الزيت

لها سبع دجاجات وديك حسن الصوت

قال: هذا أردت -هذا هو الذي أبحث عنه- قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة.

قال: على أي شيء جئت: على الظهر أم على الماء؟ -على دابة أم على سفينة؟ - قال: في الماء.

قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم.

قال: اذهب واسترجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً فعلام تأخذ مني الأجرة؟ فقد يبتلى العالِم أو طالب العلم بأسئلة جهلة، يفترض فيهم في البداية حسن الظن، ويعطيه الأدلة وأقوال العلماء، ثم يتبين لهم أنهم في سخرية، فهنا يكون عليهم صارماً، هذا علم وليس لعب، هذا علم ينبغي أن يُوقر، فلما وجد الرجل خالياً قال له ما قال تربية له وتقريعاً وتوبيخاً لأمثاله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015