وأما بالنسبة لتنظيم الجيش، فقد كانت مهمة صلاح الدين كبيرة جداً، وبشكل خاص في تنظيم الجيش، فكان لديه أنواع من الجند: منهم: العسكر السلطاني المتفرغون تماماً للجهاد؛ الذين يستخدمهم في الإغارة وصنع الكمائن دائماً.
وكان لديه أيضاً نوع آخر وهم: جند الأمراء الذين يستدعون وقت الحرب فقط ويستريحون بعدها ويذهبون إلى أهاليهم وقت الشتاء، وكان لديه أيضاً صنف ثالث: وهم المتطوعة، والقوات المساعدة من العلماء والصلحاء والقضاة والمتحمسين من المسلمين الذين يهبون كلما استدعاهم صلاح الدين.
وكان لديه من أبناء القبائل من يدله على الدروب والمسالك، وكان يدعم جنده بالعناصر الجيدة التي كان ينتخبها من الأقطار الإسلامية المختلفة ويعمد إلى أمراء الإقطاعات أن ينتخبوا له مجموعة كلما أراد أن يدعم جيشه لمعركة مهمة.
وهؤلاء المتطوعة من بين هذه الأصناف هم أشد الناس بلاءً وأحسنهم قتالاً؛ لأنهم لا يأخذون مرتبات، وليست لهم أموال تدفع للجهاد -ليس لهم رواتب- ولذلك كان منهم: العلماء، والقضاة، وكان لوجودهم أثر كبير في تحميس المسلمين؛ بل إنهم شاركوا في اختراع وسائل جديدة، وابتكار طرق مثلما حدث في معركة حطين عندما أثار بعض المتطوعة وقاموا بإشعال النار في مناطق فيها حشائش كثيرة يابسة استغلوا اتجاه الريح التي كانت تسير باتجاه الصليبيين حتى يجتمع عليهم حر هذه الأعشاب المحترقة مع دخانها مع انقضاض المسلمين عليهم.
وعمد صلاح الدين رحمه الله تعالى إلى تجميع أساليب القتال، فكان عنده نظام تعبئة، ونظام اصطفاف، وتنظيم للجيش في داخل الخيام عندما يخيمون، حتى إذا صاح قام أهل الميمنة إلى أماكنهم، وأهل الميسرة إلى أماكنهم، دون أي لخبطة.
وكان لديه حركات استكشاف، وقوات استطلاع، وعلامات بينه وبين الجنود يعرفون بها وقت الانقضاض وبدء الهجوم، وكان لديه قضاء داخل الجيش لفصل الخصومات عند حدوثها بين بعض المسلمين.
وكان لديه مجلس مشورة خاص وعام يرأسه هو، وكان يفتتحه هو ويأخذ بآراء جنوده، وأحياناً يفضل آراء المستشارين على رأيه الخاص، مع أنه كان يرى أحياناً أن رأيه أصوب تأليفاً لقلوبهم، وتطبيقاً لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ومن افتتاحياته في مجلس الشورى في شعبان عام (585هـ) في حصار عكا قوله: اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا؛ أجلب بخيله ورجله، وأناخ بكلكله كله، وقد برز بالكفر كله إلى الإسلام كله، وجمع حشده، وحشد جمعه، واستنفذ وسعه، وإن لم يعالج الآن فريقه المضل؛ عظم داؤه، وتعذر غداً لقاؤه.
وكان لديه جواسيس كما فعل في كشف خبر ملك الألمان الذي اخترق معسكره بعض جنود صلاح الدين.
وكان رحمه الله يستخدم الحمام الهادي في نقل الرسائل كما حصل في حرب عكا.
وكان يستخدم الحرب الخاطفة، والكر والفر، ويرسل المسلمين لحصد غلات الصليبيين؛ الصليبيين كان لديهم مزارع، فكان صلاح الدين يرسل جنوداً لحصد غلات الصليبيين والإتيان بها إلى المسلمين.
ويستخدم أساليب التمويه والخداع؛ فيظهر أنه خارجٌ من جهة ويأتي من جهة أخرى.
وكانت لديه غارات، وتخريب لممتلكات، وكمائن، وشن حرب عصابات كما هجم جماعة من المسلمين أثناء حصار عكا عام (585هـ) سوق الخمارات، وسبوا عدداً من النساء الفواجر.
وكان بعض المسلمين يتسللون إلى معسكرات الصليبيين لخطف الجنود.
وكان من سياساته أنه يتفق مع المستأمنين من القادمين من النصارى يطلبون الأمان من صلاح الدين، يقول لهم: في طريقكم أغيروا على سبل النصارى وسلبها بيني وبينكم، فإذا جاءوا بالسلب أعطاهم كلهم، وكان هذا سبب في إسلام شطر منهم.
وكان رحمه الله يعرف كيف يستدرج العدو إلى المكان المناسب، وكيف يوفر المواد اللازمة لجنوده كالماء والعشب للدواب، ويراعي درجة حرارة الشمس واتجاه أشعة الشمس، كما حصل في معركة حطين.
وكان يتبع طريقة النوبات في حصار حصون الأعداء، ويهتم بتحصين المناطق، وتسوير المدن التي يخشى عليها من الصليبيين، وتجديد آلات الدفاع، ويهتم بحفر الخنادق، وبناء الأبراج، وعمل الجسور.
وأنشأ دوراً خاصة لصناعة الأسطول الإسلامي في مصر بعد أن أحرقه الكفار، وكان يجلب أخشاب الصنوبر والأرز من لبنان والحديد من جبالها من قرب بيروت، وحصل من إيطاليا عبر اتفاقية عقدها مع الإيطاليين على معاهدات تجارية استطاع أن يأتي من خلالها بأخشاب ومواد يحتاجها لبناء الأسطول الإسلامي، وكان لديه ثمانين سفينة في الأسطول؛ خمسين سفينة لحماية سواحل مصر، وثلاثين سفينة لحرب الصليبيين في بلاد الشام وحماية الحجاج الذين يأتون عن طريق البحر، ويهتم بتقوية أجهزة الدفاع والحراسة الساحلية في سواحل مصر والشام، وجعل في دمياط سلسلة لإعاقة دخول العدو في حالة الطوارئ.
وكان يهتم بوضع الخطط لإدخال المؤن إلى الموانئ والأماكن المحاصرة؛ فمن ذلك: الحصار المفاجئ واستخدام القوة لفتح ثغرة في صفوف العدو مثلما حدث في حصار عكا، أو يدخل المؤن قبل ذلك إلى الأماكن المتوقع حصارها، أو كان يستخدم مهاجمة العدو وإشغاله في طرف حتى يتمكن فريق آخر من إدخال المؤن من الطرف الآخر.
وكان يشن هجوماً برياً لكي يشغل الأعداء عن أسطول المسلمين القادم من مصر بالمؤن والذخائر.
وأعد صلاح الدين في بيروت سفينة كبيرة محملة بالمؤن (400) غرارة من القمح والجبن والميرة والبصل والغنم والنفط، واستخدم المسلمون وسيلة عظيمة لإدخال المؤن إلى ميناء عكا المحاصر، وكانت هذه الخطة: أن المسلمين على ظاهر هذه السفينة المحملة بالمؤن قاموا بما يلي: علقوا الصلبان في صدورهم، ولبسوا ملابس الفرنج وتزيوا بزيهم، بل إنهم وضعوا الخنازير فوق السفينة بشكل ظاهر، ودخلوا بهذه السفينة وسط سفن النصارى التي تحاصر عكا، وصاروا يقتربون من مدينة عكا ويعتذرون للنصارى بأن الريح تدفعهم بهذا الاتجاه، والنصارى يظنونهم منهم، حتى دخلت هذه السفينة إلى عكا، ففرج الله بها عن المسلمين تفريجاً كبيراً.
وكان صلاح الدين رحمه الله يهتم باستثارة الناس للجهاد؛ فكان يرسل الرسل والكتب إلى الخليفة العباسي ويطلعه على سير الفتوحات كما حدث في معركة حطين، وأرسل رسالة إلى البلاد التي لم تكن خاضعة للخلافة العباسية يستنجد بهم، كالتركمان في الشرق، ودولة الموحدين في الغرب، كما استعان بخطباء المساجد بالدعاء لجيشه بالنصر، وحث الناس على الجهاد.
وكان حريصاً على شن المعارك يوم الجمعة في التوقيت التي تقام صلاة الجمعة؛ تبركاً بدعوة الخطباء على المنابر.
وكان يستعين بالقضاة والفقهاء لتأليب الناس على الجهاد، وفي ساحات المعارك، وفي المدن التي كان يفتحها.
وكان يسير بين صفوف الجيش بنفسه يحثهم على الجهاد، وينادي: يا للإسلام، كما حدث في حصار عكا، وكان من ضمن فقرات الرسالة التي أرسلها إلى ملك المغرب المسلم من الموحدين يقول له: لا ترضى أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الإسلام الإسلام.
يقول له: هؤلاء الكفار يعينون بعضهم، أنت لا ترضى بذلك، ألا ترضى أن يعين المسلمون المسلمين؟!! هذه نبذة عن التجهيزات التي قام بها صلاح الدين لمحاربة النصارى، ومنها نعلم أن صلاح الدين رحمه الله ما قام على الحماس الفارغ أبداً، ولا دخل في المعارك دون أن يعد العدة، ولا ألقى بأبناء المسلمين غنيمة سهلة للكفار أبداً، رجل يعرف حجم المهمة، بل إنه لم يبدأ بحرب النصارى حرباً جدية إلا بعد أن وحد بلاد المسلمين؛ وصلاح الدين يعلم تماماً أنه بدون توحيد المسلمين لا يتمكن من حرب النصارى، بل إنه تعلَّم درساً من معركة هزم فيها أمام النصارى قبل أن يستكمل توحيد بلاد المسلمين، تعلم من ذلك أنه لا بد من استكمال عملية التوحيد؛ وهذا درس عظيم ينبغي أن يهتم به المسلمون في هذا الزمان، وبالذات طائفة الشباب المتحمسين الذين يظنون أن المهم هو إلقاء النفس إلى العدو فقط، وأن الله ينصر المسلمين بأي شيء، ولا يتمعنون في قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ليعلم أولئك المتحمسون أن النصر لا يأتي بهذه السهولة، وأن أخذ العدة العسكرية والمعنوية بعد تهيئة الناس عموماً للجهاد، تريد أن تجاهد بنفر من المتحمسين للجهاد الذين تتوق أنفسهم للجنة، وهناك أعداد كبيرة جداً من المسلمين ركنوا إلى الدنيا ولم يعبأ الناس للجهاد، كيف ستقوم بهذه المهمة؟! ولذلك فإننا مع تحرقنا للجهاد في سبيل الله، وتشوقنا لجنة عرضها السماوات والأرض إن شاء الله، وتوطيننا العزم لهذا اليوم الموعود، فإننا أبداً لا يمكن أن ننساق وراء الحماس الفارغ دون إعداد العدة وتجهيز الأمة، ولا بد من التربية الواعية، ولا بد من قيام المصلحين، والعلماء، والدعاة، والخطباء، والمدرسين كلٌ في مكانه، وكلٌ في ثغرته، بشحذ همم الأمة وإعدادها للجهاد، وليس فقط الإعداد الحماسي بالخطب والكتب والتآليف والكلمات الرنانة، بل بإعداد العدة العسكرية حقيقة لأجل الوصول إلى هذا الهدف، وليس المهم أن يحدث طفرة في مكان واحد من الأمكنة فقط! كلا.
وإنني أقول بهذه المناسبة أيها الإخوة: إن الله عز وجل إذا علم من المسلمين صدقاً وإخلاصاً، فإنه يوفقهم وينصرهم.
وكم كانت رءوس المسلمين مطأطئةً فما رفعت إلا بعد الجهاد الأفغاني، الجهاد هو الذي يحيي في الأمة الروح ويبعثها بعثاً جديداً، الجهاد هو الذي يوقظ الطاقات