التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره لدليل هنا لا بد أن يوضح هذا النوع، صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، له عند علماء الأصول -والشنقيطي من كبار علماء الأصول- له عندهم ثلاث حالات: الأولى: أن يصرف عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من الكتاب أو السنة، وهذا التأويل عند الأصوليين صحيح سائغ لا نزاع فيه، ضربوا له مثلاً في كتب الأصول بحديث: (الجار أحق بسقبه) فقالوا: ظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار، أي أنت لو عندك أرض وجارك عنده أرض، إذا أراد الجار أن يبيع أرضه فأنت أولى بها من غيرك، هذا ظاهره، لكن لما نظر العلماء في النصوص الأخرى التي جمعوها في موضوع الشفعة، وجدوا نصاً يقول ما يلي: (فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) ما معنى صرّفت الطرق؟ أي ضربت الحدود، وقيل: هذه حدود أرض فلان، وهذه حدود أرض فلان، فعند ذلك لا يوجد حق الشفعة، كل واحد يبيع كما يريد.
قالوا: أيضاً تكون الشفعة في الشراكة المشاعة، أنت وشخص عندكم أرض بدون تقسيم، كلاكما يملك الأرض، بنسبة مشاعة من الأرض، ما يجوز واحد يبيع نصيبه أو نسبته فيها بدون أن يعرضها على شريكه.
إذاً لما قالوا: (الجار أحق بسقبه) ظاهرها أنه حتى لو كانت أرض محددة، قالوا: هذا ليس ظاهره مراداً، لماذا صرفتموها عن الجار عموماً إلى الشريك فقط، لماذا صرفتموها من الجار إلى الشريك في الشراكة المشاعة أو الشريك المخالط؟ قالوا: لقرينة، والدليل صحيح وهو: (فإذا ضربت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) هذا واضح، صرف الدليل عن ظاهره لقرينة صحيحه، وهذا يسمى تأويلاً صحيحاً أو تأويلاً قريباً، أو تأويلاً ساغئاً دلَّ عليه النص.
النوع الثاني: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلاً وليس دليلاً في نفس الأمر: فهذا يسمى تأويلاً فاسداً، أو يسمى تأويلاً بعيداً، ضربوا له مثالاً بكلام بعض الأحناف، أو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، لما جاء إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) الآن أبو حنيفة يرى أن نكاح المرأة لا يشترط أن يكون فيه ولي، وممكن أن تنكح من غير ولي، فلما قيل الحديث: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل).
قال: المقصود بالمرأة هنا المكاتبة فقط، الأمة عند سيدها ما تنكح إلا بإذن سيدها، وهو وليها، أما النساء الأحرار، والعاديات ممكن بغير إذن وليها، إذاً ما في دليل صحيح، بل النص: (أيما امرأة) يفيد العموم أي: كبيرة، صغيرة، حرة، أمة (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل).
فإذاً هذا الذي ذهب إليه رحمه الله ليس تأويلاً صحيحاً، والقرينة غير صحيحة، وليس هناك دليل في نفس الأمر، هذا يسمى تأويلاً بعيداً فاسداً، وهو صرف للفظ عن ظاهره المتبادر منه بغير قرينة صحيحة ولا دليل جازم يجب الرجوع إليه.
النوع الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره بدون أي دليل، أي حتى ولو قرينة ضعيفة، صرف اللفظ عن ظاهره مطلقاً هكذا على الهوى والتشهي، وعلى الرأي بدون أي قرينة لا ضعيفة ولا قوية، وهذا يسمى عند العلماء لعباً، لأنه تلاعب بالكتاب والسنة، كما قال غلاة الروافض {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، قالوا: البقرة عائشة، وما هي القرينة التي أوجبت صرف اللفظ عن ظاهره والظاهر أنه بقرة تمشي على أربعة، بقرة الحيوان البهيمة المعروفة، بأي حق صرفتم البقرة إلى عائشة؟ لا يوجد إطلاقاً أي قرينة.
وكما قال الصوفية في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، قالوا: البقرة هي النفس، تذبح نفسك بسكين الطاعة، إذاً {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] قالوا: لا شاب ولا شايب، كهل في الوسط، {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قالوا: صفار الوجه في الطاعة بالصوم {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] فهذا كلام فارغ، وهذا في الحقيقة يسمى تلاعباً لا قرينة له إلا الهوى الذي يعمي ويصم.
فالقاعدة إذاً مهمة جداً لأنها تنسف ما يقررونه، لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا لقرينة، جاءوا إلى الاستواء قالوا: نصرفه عن ظاهره، ما هي القرينة؟ قالوا: لأن الاستواء يلزم منه المشابهة، ولماذا لا تقولون هذا في الإرادة؟ ولماذا لا تقولونه في العلم؟ ولماذا لا تقولونه في سائر الصفات التي ناقشنا فيها قبل قليل؟ لماذا لا تعاملون الاستواء كما عاملتم بقية الصفات؟ ما هو الفرق؟ لا فرق في الحقيقة.