الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فموضوعنا اليوم حول حديث الرقائق من سلسلة هذه الدروس، التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها حجة لنا، وأن يعلمنا منها ما نستفيد به موعظة في حياتنا، وزاداً لنا في آخرتنا.
روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ قال: فيقص عليه من شاء الله ما شاء الله أن يقصه) كثيراً ما كان عليه الصلاة والسلام يسأل: هل رأى أحدٌ رؤيا؟ فمن رأى رؤيا يقصها على النبي صلى الله عليه وسلم (وإنه قال ذات غداة: إني أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، فأتينا على رجلٍ مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة فيثلغ بها رأسه) أي: يكسره ويشدخه (فيتدهده) أي: ينحط وينحدر (فيتدهده الحجر هاهنا) أي: من هذه الجهة (فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه) القائم الذي التقط الحجر لا يرجع إلى الرجل المضطجع (حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه، فيفعل به مثلما فعل به المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوبٍ من حديد) أي: الحديدة المعوجة الرأس التي ينزع بها اللحمة من القدر مثل الخطاف (وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه) وجه هذا الرجل المستلقي (فيشرشر شدقه) أي: يشق طرف الفم ويقطعه (إلى قفاه) من الخلف (ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب، حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود إليه فيفعل به مثلما فعل المرة الأولى.
قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق.
فانطلقنا فأتينا على مثل التنور -الفرن- قال: فأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: صاحوا وضجوا- قال: فقلت لهما: ما هؤلاء؟ فقالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا فأتينا على نهرٍ حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجلٌ سابح يسبح، وإذا على شاطئ النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر -أي: الرجل السابح- له فاه فيلقمه حجراً، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، وكلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً.
قال: قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا فأتينا على رجلٍ كريه المرآه، كأكره ما أنت راءٍ رجل مرآة، وإذا عنده نارٌ يحشها -يزيدها إشعالاً- ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق.
فانطلقنا فأتينا على روضةٍ معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويلٌ لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط.
قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أرَ روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا ففتح لنا، فدخلناها فتلقانا فيها رجالٌ شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطر كأقبح ما أنت راءٍ.
قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض -أي: الخالص- في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا وقد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة.
قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صُعُداً، فإذا قصرٌ مثل الربابة البيضاء -أي: السحابة البيضاء المنفردة المجتمع بعضها فوق بعض- قال: قالا لي: هذاك منزلك.
قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله.
قالا: أمَّا الآن فلا، وأنت داخله.
قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً! فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنَّا سنخبرك.
أمَّا الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يُشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر، فإنه آكل الربا.
وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم.
وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود مات على الفطرة.
فقال بعض المسلمين: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين.
وأما القوم الذين كان شطرٌ منهم حسناً وشطرٌ قبيحاً، فإنهم قومٌ خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم).