مرحلة التصنيف والتدريس عند الطبري

إن التسلسل التاريخي للعالم تجد أنه يبدأ يدرس ويصنف بعدما يرحل ويجمع ويحفظ، فتكون حياة العالم فيها مراحل: الطفولة التي هي حفظ القرآن والسنة ومتون في اللغة والمواريث والمصطلح ثم بعد ذلك يأخذ عن مشايخ البلد، ثم مشايخ البلاد التي جاورها يرحل ويجمع ويحصل ويحفظ ويكتب وينسخ، ثم يرجع بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة إلى بلده أو إلى البلد التي فيها جو علمي وطلبة علم كثيرين، ويجلس فيها ويكون له درس أو دروس، تكون المرحلة الأخيرة من حياة العالم التدريس والتصنيف، وهذا هو الخط العام لحياة العلماء التدريس والتصنيف.

رجع إلى بغداد رحمه الله بعدما اكتملت شخصيته العلمية، وحصل ما حصل، وجمع ما جمع، واستقر فيها إلى سنة (310هـ) حيث توفي باذلاً وقته للعلم، فاتحاً بابه لطلبة العلم، عاكفاً على تصنيف كتبه ومؤلفاته.

صار الطبري رحمه الله بتوفيق الله تعالى ثم بفضل ذلك الأب الذي دفعه للعلم منذ صغره، ثم بهذه النهمة والجمع والترحال صار موسوعة ودائرة معارف، فهو صاحب عقل منظم، كان يمتاز بالتنسيق، وأنت لا تجد مؤلفاً من المؤلفين المكثرين إلا وعنده جانب التنسيق والترتيب ناضجاً، ولذلك يستطيع أن يصنف، فالتصنيف يحتاج إلى عقلية ترتب وتنسق.

وكان مدرساً في غاية الجودة في التدريس، ولذلك كان عنده طلاب كثيرين، الطالب إذا أحس أن الشيخ يعتني به؛ ويحسِّ خلقه معه، يفتح صدره له؛ ويقبل الطلاب عليه، والمجاهد ينفع الأمة بالجهاد، والغني ينفع الأمة بالمال، والعالم ينفع الأمة بالتدريس والتصنيف، وهناك طلاب يُعتبرون صدقات جارية لأنه يعلم من بعده، والأجر للمعلم الذي علَّم الطالب الأول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأمة أجراً، وكذلك المصنف يطلق عليه (ولد العالم المخلد) فالإنسان إذا اعتنى بتربية ولده، وعاش ولده صالحاً يدعو لأبيه؛ ينتفع الأب بدعاء ولده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم؛ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فالولد الصالح طيلة حياته يدعو لأبيه ويعمل أعمال بر لأبيه، وتكتب أعماله مثل أجورها في صفحة أبيه، هو الذي رباه، وإذا انتهى الولد انتهى مورد الأجر بهذا الأب، لكن يعتبر تصنيف العالم يعتبر ولداً مخلداً؛ لأنه طيلة وجود هذا الكتاب يكون الأجر يدر على مؤلفه ومصنفه.

فتأمل الآن مثلاً كتاب مثل كتاب تفسير الطبري الذي هو أساس الكتب، وأعظم كتاب في التفسير على الإطلاق باعتراف علماء الأمة، وكل من بعد ابن جرير عالة عليه في التفسير، كما أن أعظم كتاب في الحديث هو صحيح البخاري، فأعظم كتاب في التفسير هو تفسير الطبري، طيلة رجوع العلماء وطلبة العلم والناس إلى هذا الكتاب، فإن ابن جرير يجري عليه عمله في قبره إن شاء الله، ويصل إليه مداد الأجر وافراً وهو في قبره، فتصنيف العالم ولده المخلد.

ولم يكف ابن جرير رحمه الله عن التعلم وهو في مرحلة التصنيف والتدريس، فالإنسان دائماً في تعلم فوائد جديدة، والعجيب في شخصية هذا الرجل أنه كان صاحب همة عالية جداً.

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ

إذا كانت النفوس كبار الهمم عالية، تعبت في تحقيق مطلوبها الأجسام، فاستمر ابن جرير رحمه الله حتى بلغ السادسة والثمانين من عمره لم تفتر عزيمته، ولم يخف نشاطه، ولم يجف قلمه حتى مات وهو في السادسة والثمانين وحتى في مرحلة الشيخوخة بدأ بتصنيف عدة كتب، وقطع في كل منها شوطاً ولم يتمها، كـ فضائل علي وفضائل أبي بكر وفضائل عمر وفضائل العباس والموجز في الأصول وتهذيب الآثار وهو من أعظم كتب الحديث لكنه لم يتمه، كذلك ألف في الأصول كتاب الآذر، ولكنه لم يخرج منه شيئاً، وأراد أن يعمل كتاباً في القياس فلم يعمله، لكن خذ الكتب التي عملت كـ التفسير وتاريخ الطبري مثلاً.

يقول أبو القاسم الحسين بن حبيش الوراق: كان قد التمس مني أبو جعفر أن أجمع له كتب الناس في القياس -لأن التصنيف يحتاج فيه العالم إلى اطلاع على مصنفات ومؤلفات من كتب قبله في نفس الموضوع- فجمعت له نيفاً وثلاثين كتاباً، فأقامت عنده فترة مديدة، ثم كان من قطعه للحديث بشهور ما كان، فردها علي، وفيها علامات عليه بحمرة قد علم عليها، أي: قد اطلع، وعلم بعلامات.

قبيل مرض الوفاة كانت الهمة متجهة للتصنيف وزيادة التأليف، وهذه الهمة الجبارة لا شك أنها وليدة ذلك الإيمان القوي الحافز والدافع، ونتيجة التربية، ونتيجة ما قذف الله في قلب هذا الرجل من حب العلم، والنهمة التي رزقها الله إياها، إذا رزق الله طالب العلم نهمة في الجمع؛ فإنه لا يقف عند حد.

لم يؤلف الطبري رحمه الله في فنٍ واحدٍ، أو كان متخصصاً في فن واحد فقط، بل جمع مختلف العلوم الشرعية واللغوية وغيرها، فهو إمام في اللغة إمام في التاريخ إمام في الحديث إمام في التفسير إمام في القراءات وهكذا.

سمع ابن جرير الحديث من كثيرين، بعضهم من شيوخ البخاري ومسلم، وحدث عنه خلائق، وهو من جهة أجيال المحدثين يعتبر من جيل الترمذي والنسائي، مع العلم أن جيل الترمذي بعد جيل البخاري، وجيل البخاري بعد جيل ابن المديني، وجيل ابن المديني بعد جيل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وهكذا، فالإمام أحمد من جيل وعلي بن المديني ويحيى بن معين من هذه الطبقة، والطبري رحمه الله -كما قلنا- برع في جميع الفنون: فقه مقارن اختلاف العلماء تاريخ لغة نحو صرف عروض بيان مناظرات طب جبر رياضيات نظم شعر، وهكذا كله بعد التفسير، والحديث، والعقيدة والأصول.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015