فضل العلم والعلماء

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معلماً، وسار العلماء الربانيون على نهجه عليه الصلاة والسلام في تعليم الأمة، وتعلم هذا العلم، وهذه الأمة -ولا شك- تفتخر بماضيها وحاضرها.

وهؤلاء العلماء الذين كانت لهم أيادٍ بيضاء على هذه الأمة بتوفيق من الله سبحانه وتعالى لا بد أن يتعرف عليهم أبناء هذا الدين، ليكونوا لهم قدوة ولينسب الفضل إلى أهله، ويعرف الفضل لذويه، ولا شك أن هذا من العدل ومن حسن العهد الذي هو من الإيمان، وإذا كانت الأمم الكافرة تبجل عظماءها، وتعقد الذكريات السنوية لحياتهم إحياءً لذكراهم وترجمة لهم وذكراً لمناقبهم وأطوار حياتهم وشرح مآثرهم، بل يسمون ما لديهم من المدارس والجامعات والمؤسسات بهؤلاء العظماء؛ فإن أمة الإسلام أولى بأن تحفظ الجميل لأهله، ونحن لسنا بحاجة إلى بدع ولا أعياد، ولا احتفالات لهؤلاء، فإن العلماء رحمهم الله تعالى قد عرفوا الفضل لأهله، فسطروا تواريخ هؤلاء العلماء وسيرهم وحياة كل واحدٍ منهم، وذكروا مآثرهم ومناقبهم وفضائلهم ومصنفاتهم وتلاميذهم وشيوخهم، كلها مسطرة بحيث أن المسألة لا تحتاج إلا إلى جهد في القراءة والاطلاع للتعرف على مآثر هؤلاء العلماء، ولكن يبقى أنه لا بد من نشر فضائل هؤلاء العلماء في الدروس وغيرها مما يلقى على الناس، حتى يتعرف الناس على علمائهم، ولا شك أننا أمة لنا ماضي وحاضر، وأننا ممتدون عبر الأجيال، ونحتاج إلى ربط الماضي بالحاضر، ولسنا مقطوعين عما مضى أو أبناء هذا الزمان فقط؛ ولذلك يشعر الإنسان بالتآلف والاتصال عندما يقرأ في سير هؤلاء العلماء.

وحديثنا هذه الليلة عن الإمام المفسر العلم الكبير أبي جعفر الطبري رحمه الله تعالى والذي عاش ما بين عام: (224هـ - 310هـ) في الدولة العباسية، حيث عاصر عدداً من خلفائها، فإنه ولد في خلافة المتوكل، وبعده المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي ومات في خلافة المقتدر، ولا شك أن هذا العصر ليس مثل عصر هارون الرشيد الذي يعتبر أوج الدولة العباسية، ولكن من جهة الحركة العلمية لا شك أنه عصر نشط للغاية، ومزدهر جداً؛ لأن معظم العلوم الشرعية كانت قد أسست، والمذاهب الفقهية قد ظهرت، والتدوين والتصنيف قد نشط جداً، ففي هذا العصر كان قد جمعت الصحاح والسنن.

وفي القرنين الثالث والرابع بلغت العلوم الشرعية والمذاهب الفقهية درجة كبيرة من الاستقرار والانتشار والتوسع، وصنفت الكتب في المسائل، وكانت هذه الفترة التي تلت فترة التأسيس تتطلب أدوات كثيرة لمن يطلب العلم من هذه المصنفات والمشايخ المنتشرين في طول البلاد وعرضها.

عاش ابن جرير الطبري رحمه الله في القرن الثالث والرابع، وظهر في هذه الفترة كبار العلماء، مثل: الشافعي رحمه الله (204هـ)، وأحمد بن حنبل (241هـ) وداود الظاهري (270هـ)، وخرج بعدهم طلابهم كـ المزني والبويطي وابن سريج والمروزي وأبو حامد وابن المنذر والقفال الشاشي والاصطخري من فقهاء الشافعية وتلاميذ الشافعي، وتلاميذهم كانوا قد ظهروا في تلك الفترة أيضاً، وفي المذهب الحنفي عرف الجصاص والخصاف والطحاوي وأبو الحسن الكرخي، وفي المذهب المالكي إصبغ وأبو بكر الأبهري والقاضي أبو الفرج، وفي مذهب الإمام أحمد رحمه الله عرف أبو بكر المروزي والأثرم وإبراهيم الحربي والخلال والخرقي وهؤلاء كلهم من أعلام المذهب الحنبلي.

وفي هذه الفترة كانت بلدان العالم الإسلامي تعج بالإنتاج الوفير وتخريج فطاحل العلماء في شرق الدولة الإسلامية من بخارى وسمرقند، وفي فارس التي من مدنها شيراز وخراسان وأصبهان، والطبرستان التي ينتسب إليها الطبري رحمه الله، وهمدان، وكذلك في العراق في بغداد والبصرة والكوفة، والشام في دمشق والقدس وبيروت، وفي الحجاز في مكة والمدينة، وفي اليمن في صنعاء وزبيد، وفي مصر في القاهرة والاسكندرية، وفي المغرب في القيروان ومراكش، وفي الأندلس في أشبيلية وقرطبة وطُلَيطُلة، كل هذه المدن الإسلامية في الشرق والغرب والوسط كانت تعيش في فترة ازدهار علمي كبير.

ولا شك أن هذا كان من أسباب خروج علماء فطاحل، فإذا كان الجو العلمي مهيأ، والعلم منتشر ومزدهر، وإذا كانت المصنفات كثيرة، وإذا كانت الوسائل والسبل مفتوحة؛ فلا بد أن يخرج علماء كبار، فإذا قارنا ذلك بحالنا في هذه الأيام؛ لعرفنا لماذا نحن متخلفون في هذا الجانب عن الركب كثيراً، ولماذا لم يظهر علماء كبار كثر في هذا الزمان؟ فإن حركة البحث العملي وانتشار العلم والعلماء -الجو العلمي- لا يقارن مطلقاً بما كان عليه في الماضي، ولكن عندما يوجد ولو في إحدى الجامعات جو علمي نشط، وحركة بحث وتأليف ورسائل ومشايخ وعلماء، فعند ذلك تتهيأ الفرصة لخروج علماء، وهذه مسألة مهمة أن الأمة تحتاج إلى علماء، ولا بد لها منهم، فلماذا لم يتخرج علماء كبار أو كثر؟ ولماذا لا زالت الأمة فيها عجز كبير جداً في قضية العلماء حتى أن العلماء الكبار الثقات معدودون على أصابع اليدين؟ فالأمة تحتاج إلى علماء كثر، فأعداد المسلمين في العالم كثر للغاية أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك العلماء أقل من أي وقت مضى، ولا شك أن من الأسباب تهيئة الجو العلمي؛ لأن العلماء لا يخرجون من فراغ، ولكن لا بد من وجود جو علمي يخرجون من خلاله، ولذلك فإن احتساب بعض الناس الأجر في تهيئة الأجواء العلمية لخروج العلماء؛ يكون فيه أجر عظيم حتى لو لم يكونوا هم بأنفسهم علماء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015