وعندما كان صاحب الهوى منه إما محباً للخير حاضاً عليه، وإما مريداً للشر حاضاً عليه، وتجد أن الله عز وجل يصف الهوى في أكثر الآيات للكفار: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأنعام:150] {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56] {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] والمقصود بهذه الآيات نوع من الكفار هم أهل الكتاب: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48] {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15] {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43].
وقد جاء في الحديث نسبة الهوى إلى صاحبه كما قال: (والعاجز من أتبع نفسه هواها) مع تقصيره في طاعة الله واتباعه للشهوات لا يستعد ولا يعتذر ولا يرجع بل يتمنى العفو والجنة، مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار.
(العاجز من غلبت عليه نفسه فأعطاها ما تشتهيه).
قال الحسن: [إن قوماً لهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لقوا حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب فإنه لو أحسن الظن أحسن العمل.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]] وجاء في الحديث الصحيح في الحوار بين حذيفة وعمر لما روى حذيفة رضي الله عنه حديث عرض الفتن على القلوب عوداً عوداً، وكيف يصبح قلب المؤمن في النهاية بعد التمحيص أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والقلب الآخر الذي نكتت فيه نكتة من المعصية على نكتة أخرى من معصية أخرى على ران يعلو القلب، قال: (والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) فأضاف الهوى إلى القلب، وأضاف الله عز وجل الهوى دون أن ينقصه إلى الكفار لأن أهواءهم ليست على الحق بخلاف المؤمن فإن هواه موافق للحق، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فالكافر هواه كله باطل، والمؤمن قد يرتقي هواه حتى يصير تابعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا مال إلى شيء كان ذلك الشيء سنة وطاعة وعلى أدنى الأحوال مباح فهوى المؤمن إذا ارتقى يصبح موافقاً لما في الكتاب والسنة.
ومما ورد من استعمالٍ في الهوى الذي لا يذم ما تقدم كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغار على اللاتي يهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] وأيضاً قال الله له: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] قالت عائشة: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك).
وفي صحيح مسلم في قضية الأسرى بعد معركة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر -لوزيريه- مستشيراً: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ بهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان -نسيب لـ عمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء قمة الكفر وصناديدها، قال عمر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت).
إذاً: مال إلى قول الصديق، وسماه هوى مع أنه أخذ به لمصلحة الإسلام في ظنه، وليس لأجل اتباع الهوى المخالف للحق، فكان ذلك الاجتهاد من النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه: نأخذ ما ننتفع به من المال منهم ليس لجيوبنا بل لمصلحة الإسلام، ولعل الله أن يهديهم فيموتوا على الإسلام بدلاً من أن نقتلهم على الكفر، هوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر الصديق، فنزل القرآن مصوباً لرأي عمر رضي الله عنه؛ لأنه ليس له أي مدخل في الدنيا، وإنما ضرب الرقاب إثخاناً لهؤلاء الكفار لتنكسر شوكتهم، وقدم على أخذ الأموال وإطلاق هؤلاء الذين ربما يعودون في الجيش القادم ضد المسلمين وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فقوله صلى الله عليه وسلم: (والقلب يهوى ويتمنى) ليس في الشر فقط بل في الخير أيضاً، ولهذا قال بعده: (ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) ما هو المنهي عنه بالنسبة لنا الآن وأي هوى الذي ننهى عنه؟ لو نظرنا في المواضع التي نزلت في الكتاب العزيز لعرفنا أننا نهينا عن اتباع الكفار كما تقدم، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] هل هذا مثل الذي يتبع هواه؟ {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] وهذا الاتباع فيه التقصي للشيء من كل وجه؛ لأن الاتباع في الأصل المشي خلف الشيء، فالذي يكون متبعاً لهواه يتأمل دقة العبارة في القرآن وبلاغة القرآن: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28] إذا قلت: فلان اتبع فلاناً، أي: مشى وراءه، واحدة واحدة، حذو النعل بالنعل، فقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] فكأن الهوى هو القائد وهم يسيرون خلفه فيتبعونه، فحيثما مال بهم الهوى مالوا، وحيثما قادهم انقادوا وهكذا.
وقد جاءت السنة بهذا التعبير عن أبي أمية الشعباني قال: (سألت أبا ثعلبة القشري فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105]؟ قال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف) هل قوله: (عليكم أنفسكم) يعني: عليه نفسه وما له دخل في الناس إذا رأى منكراً أو خطأ؟ هل هذا معنى الآية؟ كلا، ولذلك قال: (إني سألت النبي عليه الصلاة والسلام عنها -فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مفترةً -تقدم على الآخرة- وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه -لا أحد يرضخ لأحد، كل واحد يرى نفسه أنه شيخ المشايخ وأعقل العقلاء وأحكم الحكماء وأذكى الأذكياء، ولا أحد يتنازل عن ذلك- فعليك بنفسك ودع عنك العوام) الآن يطبق عليك عندما لا يوجد مجال إلا هذا فسدت الدنيا وفسد الجو المحيط والبيئة وكل واحد متبع هواه والشر منتشر والدنيا مقدمة، وكل إنسان معجب برأيه فلا فائدة إذاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أغلقت الأبواب سيأتي وقت يمر على البشرية بهذه الطريقة وبهذه الصفات، فعليك نفسك عندئذٍ، فنحن الآن نقترب من هذه المرحلة؛ لكن -الحمد لله- ما وصلنا إليها ولا زلنا نرى نتيجة من الدعوة، ونتيجة من النصيحة، ونتيجة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك تأثر من بعض الناس وإن كانوا أقلية؛ لكن هذا موجود، وهناك أناس من المؤمنين سيصلون إلى مرحلة هذه حالها، قال: (فإن من ورائكم أيام صبر، الصبر فيها مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) وهو حديث صحيح فقيد الهوى بمضلات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، كل إنسان في نفسه هوى وشهوة، فهل يعاقب لأن في نفسه هوى وشهوة؟ هل يطلب من كل إنسان أن يستخرج الهوى والشهوة من نفسه وينبذها خارجاً؟
صلى الله عليه وسلم لا.
ولا يستطيع، يعني: لا يأثم على وجودها وليس مطالباً بإخراجها لأنه لا يمكن انتزاع الهوى والشهوة من النفس وإسقاطهما، ولذلك قال شيخ الإسلام: "ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليها، بل على اتباعه والعمل به" إذا صار يتبع شهوته في كل شيء، ويتبع الهوى في كل شيء فالعقوبة على الاتباع لا على نفس الشهوة، وهذا كلام دقيق موزون، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملاً صالحاً، وكان في جهاد: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء