ثم قال الخطيب رحمه الله: ويلازم حضور المجلس، واستماع الدرس، وإذا مضى له برهة في الحضور وأنس بما سمع، سأل الفقيه أن يملي عليه من أول الكتاب شيئاً، ويكتبُ ما يملي، ثم يعتزل وينظر فيه -يذهب إلى زاوية المسجد إلى البيت ينظر فيما كتب- فإذا فهمه انصرف وطالعه وكرر مطالعته حتى يعلق يذهبه، فإذا حضر المجلس؛ سأل الفقيه أن يستمع منه -يقول: سمع لي- ويذكر له من حفظه، ثم يسأل الفقيه إملاء ما بعده -يقول: هات شيئاً جديداً أنا أحسنت وأتقنت الأول، هات دفعة جديدة- ويصنع فيه كصنيعه فيما تقدم.
قال: ولا ينبغي أن يستفهم من الفقيه -أي: الشيخ العالم- حكم الفصل الذي يذكره له قبل أن يتم الفقيه ذكره، فربما وقع له النسيان عند انتهاء الكلام، قال الله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114] انتظر يا محمد! صلى الله عليه وسلم، إذا تكلم جبريل انصت يا محمد! صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي جبريل مما عنده، فإن انتهى كلام الفقيه، ولم يبن له الحكم، سأله عنه حينئذٍ، (فإنما شفاء العي السؤال) ويستعرض جميعه كلما مضت له مدة -أي: المراجعة- ولا يغفل ذلك، فقد كان بعض العلماء إذا علم إنساناً مسألة من العلم سأله عنها بعد مدة، فإن وجده قد حفظها علم أنه محب للعلم، فأقبل عليه وزاده، وإن لم يره حفظها، وقال المتعلم: كنت قد حفظتها ونسيتها، أو قال: كتبتها فأضعتها إذا كان هذا الذي وجه به أعرض عنه ولم يعلمه قال: أنت لم تضبط الأولى فكيف تضبط الثانية، اذهب واضبط الأولى أولاً.
والسبب في التدرج وأهمية التدرج أن هذا العلم صعب، وهذا الدين متين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق) فلابد في المنهجية في طلب العلم من التدرج، أما أن يهجم الإنسان على العلم هجوماً، يريد أخذه بجميع أطرافه فلا يمكن، وسيسقط ويفشل، والدليل: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق).
ولذلك فإن من القواعد: الأخذ قليلاً قليلاً، وهذه وصية من عالم لمتفقه، قال له: تعلم كل يوم ثلاث مسائل، ولا تزد عليها شيئاً حتى يتفق لك شيء من العلم، فتعلم.
هذا الرجل تعلم على هذه الطريقة ثلاثة مسائل في اليوم، ولزم الحلقة حتى فقه، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع.
وينبغي للمتفقه أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلاً قليلاً، حسب ما يحتمل حفظه، والناس يختلفون في الحفظ والاستيعاب يأخذ قليلاً قليلاً، فإن الله تعالى قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
إذاً لابد من التدرج، والأخذ قليلاً قليلاً.
والذين يتركون التدرج في طلب العلم هناك أسباب من أجلها يتركون التدرج، فمن ذلك: 1 - محبة الاشتهار والأخذ هذا أخذ كثير هذا يجلس في ثلاث حلق، ويدرس عند أربعة مشايخ وهكذا.
2 - الاشتغال بطلب العلم عند الكبر، مثلاً: رجل يطلب العلم وعمره متقدم، فتقول له: تعال نعلمك بدائيات العلم، ونبدأ معك من البداية بالعلم الشرعي، تراه يأنف ويقول: أنا أجلس مع الصغار والأطفال، تريد أن تعلمني مثلما يتعلم الأطفال! لا.
أعطني من الذي فوق، لماذا تبدأ من الأسفل؟ فهذا يستنكف، فهذا من أسباب ترك التدرج، أنه لا يبدأ بالاهتمام بالعلم الشرعي إلا في سنٍ متأخرة.
3 - الطوارق المزعجة، والهموم المشغلة، وتقسم الأفكار، فهذا مستعجل يريد أن ينتهي من الكتاب، يقول: خلص هذا الكتاب يا شيخ! نحن الآن لنا سنوات في هذا الكتاب، وأنت لم تنتقل من الأبواب الأولى فهذه آفات الاستعجال تمنع التدرج في طلب العلم.