كما أن هناك نماذج مضيئة فهناك أيضاً نماذج مظلمة، وقصص فيها عبر حصلت في الماضي يقول ابن كثير: في عام (278هـ) توفي عبدة بن عبد الرحيم قبحه الله - ابن كثير يدعو عليه- ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصرو بلدة من بلدان الروم إذ نظر هذا المجاهد المفتون إلى امرأة من نساء الروم في حصنها في العلو فهويها، بسبب نظرة، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ قالت: أن تتنصر وتصعد.
فأجابها، لأجل امرأة يترك دينه! فما راع المسلمين إلا وصاحبهم عندها، فاغتم المسلمون غماً شديداً، وشق عليهم مشقةً عظيمة، فتركوا الحصار بعد ذلك وذهبوا، فمروا عليه مرة أخرى على الحصن هذا فوجدوه مع المرأة، شاهدوه من بعد، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ قال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].
وذكر ابن النجار في تاريخه أن رجلاً كان يطلب العلم يقال له: ابن السقة، كان عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فسأل الشيخ مسألة وأساء الأدب مع الشيخ، فقال أبو إسحاق: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر هذه فراسة، ما تؤول إلا فراسة، فاستغرب الحاضرون؛ طالب علم يسأل شيخاً، والشيخ يقول: اجلس إني أرى منك رائحة الكفر! وكان حافظاً للقرآن، حصل أن خليفة المسلمين أرسل هذا الرجل بعد ذلك برسالة إلى ملك الروم، فذهب وافتتن ببنت ملك الروم وطلب زواجها، وامتنعوا إلا أن يتنصر فتنصر، ورئي في القسطنطينية مريضاً وبيده مروحة يذب بها الذباب عن وجه، فسئل عن القرآن فذكر أنه نسيه إلا آية واحدة: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].
قال ابن القيم: وكان بـ مصر رجل يلزم الأذان والصلاة، صعد المنارة يوماً على عادته وكان تحت المنارة دار لنصراني فاطلع فيها فرأى بنت صاحب الدار، فافتتن بها وترك الأذان، ونزل إليها وطرق الباب، فقالت: أنتم لستم من أهل هذه الأمور، أنتم مسلمون.
النصارى يعرفون أحوال المسلمين في الغالب.
قال: أريدك.
قالت: لماذا؟ قال: لأنك سلبتِ لبي.
قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبداً.
انظر النصرانية لا تقول بالحرام، قال: أتزوجك؟ قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك.
قال: أتنصر.
قالت: إن فعلت أفعل.
فتنصر ليتزوجها، وصعد سطح الدار فزلت قدمه، فوقع على عنقه فمات.
أيها الإخوة إن الذي يصبرنا أشياء: الفلاح، وابتغاء رضا الله، وابتغاء الأجر: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] ثناء الله يكفينا، الجنة والنعيم المقيم {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] خذ الدليل، الجنة مقابل حفظ الفرج: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) رواه البخاري وهكذا اسأل هؤلاء الذين يريدون العبادات ما هي الغاية؟ الجنة ووجه الله طمأنينة وراحة البال إلى صبرنا لذة الانتصار على النفس، إذا كان أهل الحرام يجدون لذة بالحرام فأصحاب الإيمان والعبادة يجدون لذة أكبر
صبرت عن اللذات لما تولت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن طمعت تاقت وإلا تسلت
إذا صبرتها صبرت، وإذا أطلقت لها العنان انطلقت رب مستور سبته شهوة فتعرى ستره فانتهك صاحب الشهوة عبد فإذا غلب الشهوة أضحى ملكاً أي عبادة شاقة لو مارستها فترة ارتحت، وذهب عناء العبادة أي شهوة محرمة مهما كانت لذيذة لو مرت ماذا يحدث؟ تنسى لذتها، إذاً هذا ينسى وهذا ينسى، لكن ما الذي يبقى في الصحائف؟ أجر ذاك ووزر هذا، لذلك شعارنا "الموت ولا الحرام".
جاء رجل إلى الشافعي برقعة كتب فيها:
سل المفتي المكي من آل هاشم إذا اشتد وجد بامرئ كيف يصنع
فكتب له الشافعي تحته:
يداوي هواه ثم يكتم وجده ويصبر في كل الأمور ويخضع
فأخذها وذهب بها، ثم ردها للشافعي وكتب عليها:
فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم غصةً يتجرعُ
فكتب الشافعي
صلى الله عليه وسلم
فإن هو لم يصبر على ما أصابه فليس له شيء سوى الموت أنفعُ
إذاً أيها الإخوة: لا بد أن نعظ أنفسنا بالموت وما بعده
قد كان عمرك ميلاً فأصبح الميل شبرا
وأصبح الشبر عقداً فاحفر لنفسك قبرا
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وارزقنا العفة والعفاف والصبر عن المحارم والمحرمات، واجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً.
والحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.