جاء في القرآن الكريم آياتٍ في وجوب بر الوالدين وعظيم فضل البر، فقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23].
كما قال في الآية الأخرى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36].
وقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23].
فأمر بالقول الحسن، والفعل الحسن، بعدما نهى عن القول السيئ، والفعل السيئ.
فقال: (لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وهي أدنى كلمة تدل على التضجر والاستثقال، أو تقال للاستقذار لما شمه الإنسان، ولو توجد كلمة أدنى منها لذكرها الله محذراً منها، فلا يؤذى الوالدان ولا بأقل القليل، ولا يسمعهما كلاماً سيئاً.
(وَلا تَنْهَرْهُمَا) لا تزجرهما بالكلام، ولا تنفض يدك في وجهيهما تبرماً.
(وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) لا تسميهما باسميهما ولا تكنيهما، وإنما تقول: يا أبي! أو يا أبت! ويا أمي! وكذلك تقول لهما قولاً كريما، وهو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
وقد بين الله عز وجل الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
قال ابن كثير رحمه الله: وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً؛ ليذكر الولد بإحسانهما، المتقدم إليه كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، ولهذا قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] أي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.
ولقد امتدح عبده يحيى عليه السلام بأنه كان تقياً وباراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً، فكان مسارعاً لطاعتهما عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مستكبراً لا عن طاعة ربه، ولا عن طاعة والديه، وحدثنا عن عيسى عليه السلام كذلك بقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:31 - 32].
وحدثنا عن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه، وأن الله لما أوحى لإبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده إسماعيل استجاب الولد، وأذعن لأمر الله، وتواضع للأب، وقال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:102 - 105].
هذا الولد الصالح البار قام يساعد أباه في بناء البيت العتيق، وقاما ببناء الكعبة معاً، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] وكذلك تحلق أولاد يعقوب عليه السلام حوله عند موته وهو يوصيهم: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133].
وحتى في القرآن ضرب الله لنا المثل بالبنتين الصالحتين اللتين خرجتا تسعيان على أبيهما الكبير العاجز عن العمل، وهما تذودان الغنم عن الرعاة الأجانب، حتى لا تختلط بغنم أولئك القوم، وتقفان حتى يفرغ الناس من السُقيا؛ ليسقيا، فيسر الله لهما موسى.
هاتان البارتان يسر الله لهما نبياً كريماً يسقي لهما، ويتزوج إحداهما، ويكفيهما مئونة العمل، ويقوم هو بالسُقيا عشر سنين، فإن نبي الله إذا قال فعل، هل سقى ثمانية أو عشرة؟ عشر سنين، فقضى أتم الأجلين وأوفاهما أو أكملهما.