نحن -أيها الإخوة- ما هو حالنا ونحن نعاتب أنفسنا؟ ما هو حالنا في إخفاء العمل؟ العمل واجب ومطلوب ولا شك في ذلك، لكن هل حاولنا إخفاء العمل كما كانوا -رحمهم الله- يخفونه؟ أليس الواحد منهم كان يحمل جراب الدقيق على ظهره ليعطيه فقراء أهل المدينة؟! أليس الواحد منهم كان إذا نشر مصحفه فدخل عليه رجل غطاه بثوبه حتى لا يراه وهو يقرأ؟! ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة، كان يجعل تطوعه كله في البيت حتى لا يرى، أما نحن فنحب الشهرة ونتطلع إليها، ونريد أن نذكر وأن يعلو اسم الواحد منا بين الناس، على عكس ما كانوا عليه رحمهم الله تعالى.
خرج ابن مسعود ذات يوم فتبعه الناس فقال لهم: [ألكم حاجة؟ قالوا: لا.
ولكن أردنا أن نمشي معك؟ قال: ارجعوا فإنها ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع] نحن نرى لأنفسنا حقاً وشأناً ومكانة وهم كانوا رحمهم الله تعالى يغمطون أنفسهم ولا يرون لها حقاً، بل كانوا يحتقرونها حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [لو تعلمون ما أعلم من نفسي لحثيتم على رأسي التراب] وكان بكر بن عبد الله المزني إذا رأى شيخاً كبيراً في السن، قال: هذا خير مني، عبد الله قبلي، وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب.
فعندنا -أيها الإخوة- طربٌ إذا سمعنا ثناء الناس بخلاف السلف رحمهم الله تعالى.
محمد بن واسع دخلوا عليه يعودونه وهو يقول: ما يغني عني ما يقول الناس إذا أخذ بيدي ورجلي فألقيت في النار.
وكان يقول لجلسائه: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي.
نحن أصحاب المجاملات، ونحن الذين يتزين بعضنا لبعض ويخفي بعضنا عن بعض أشياء كثيرة، نحن لو قارنا حالنا بحال السلف الذين كان يقول قائلهم هذا الكلام لأفلحنا، ولكن نفعل أشياء من الذنوب كثيرة، ثم نتجمل أمام الناس بالمظهر الحسن ونتظاهر بلباس التقوى، وفي أحدنا من الذنوب ما الله به عليم.
وقال رجل لـ ابن عمر: [لا نزال بخير ما أبقاك لنا الله، قال: ثكلتك أمك، وما يدريك ما يغلق عليك من أخيك بابه].
وإذا كان الواحد منا إذا أثني عليه في مجلس انتفش وانتفخ وأحس بنشوة وطرب فإنهم رحمهم الله كانوا بخلاف ذلك.
قال أحدهم: رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله -يعني الإمام أحمد - وقد أثنى عليه شخص وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، قال: بل جزى الله الإسلام عنا خيراً، ومن أنا؟ وما أنا؟ وفي أنفسنا نحن عجب كثير، يعجب الواحد بعمله، ويعجب برأيه، مع أن الإعجاب بالرأي مصيبة، وقد لا نفكر بالخوف على أنفسنا من هذا العجب رغم أنه يورد المهالك: (الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه) قال رجل لـ ابن عمر: [يا خير الناس وابن خير الناس! فقال: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه].
كان الواحد منهم يرفض أن يثنى عليه، والواحد منا اليوم إذا سمع ثناءً لسان حاله يقول: هات الزيادة، وليثن غيرك ونحو ذلك، وهم رحمهم الله كانوا لا يرون أنفسهم شيئاً، يحتقرون أنفسهم غاية الاحتقار حتى كان الواحد منهم يقف في عرفة يُسمع بغير قصد وهو يقول: اللهم لا ترد هذا الجمع من أجلي، بل كانوا إذا لم يعرفوا سروا بذلك، كان للواحد منهم سمعة بغير قصد، فكان إذا جهل حاله في مكان أو بلد قدم إليه سراً في ذلك.
قال الحسن: كنت مع ابن المبارك يوماً فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج لي قال: ما العيش إلا هكذا، يعني: حيث لم نعرف ونوقر.
وبينما هو بـ الكوفة يقرأ عليه كتاب المناسك انتهى إلى حديث وفيه قال عبد الله بن المبارك وبه نأخذ، مكتوب تعليق على الكتاب قال عبد الله بن المبارك وبه نأخذ، فقال: من كتب هذا من قولي؟ قلت: الكاتب الذي كتبه، فلم يزل يحكه بيده حتى درس وذهب، ثم قال: ومن أنا حتى يكتب قولي، هذا وهو من السلف رحمهم الله تعالى.
إنهم كانوا حريصين على كسر الفخر وإذهاب العجب والرياء من أنفسهم، لا يمكن للواحد منهم أن يختال وأن يزدري الناس.