ثامناً: ومن مكائد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والخداع، فإن الشيطان يتسلل إلى بعض نفوس بني آدم بأشياء من الحيل والمخادعات لله، يزينها لهم على أنها حيل شرعية ولا بأس بها وهي تتضمن إحلال الحرام وإسقاط الفرائض، هؤلاء الناس الذين يستجيبون للشيطان قال الله فيهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] هذه من صفات المنافقين.
ومن الأمثلة على ذلك: نكاح التحليل، فإنه إذا طلق امرأته ثلاثاً منفصلة بانت منه، ويريد الرجوع إليها استأجر تيساً مستعاراً بعشرة دراهم أو أكثر ليتزوجها زواجاً صورياً لا يريدها ثم يطلقها ليرجع إليها الزوج الأول، هذا الذي وصفه عليه الصلاة والسلام بالتيس المستعار: (لعن الله المحلل والمحلل له) هذه حيلة خبيثة شيطانية.
ومن أمثلة ذلك مثلاً: بيع العينة، بأن يبيع الإنسان شخصاً شيئاً، فيشتري من شخص إلى أجل بعشرة آلاف -مثلاً- إلى سنة، يسددها بعد سنة عشرة آلاف ثم يبيعها على نفس الشخص الذي اشتراها منه فوراً نقداً بثمن أقل بتسعة آلاف أو ثمانية آلاف مثلاً، فهذا هو بيع العينة، لكنه في الحقيقة هو ظاهره بيع وشراء إني أنا اشتريت منه بنقد إلى أجل بعشرة آلاف نسيئة إلى أجل عشرة آلاف ثم بعتها عليه نقداً بثمانية آلاف، ظاهرها أنها بيع وشراء ولكنها في الحقيقة حيلة إلى الربا.
ولذلك يعمد كثير منهم في خداعهم لله سبحانه وتعالى أن يذهب إلى دكان ويأتي بطرف ثالث عنده البضاعة والشخص الذي يريد أن يقرض ويقترض، فيضع يده على كومة الرز إلى آخر الحيلة المعروفة، يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، لأنه عندما يخادع ويرتكب المحرم يكون عليه إثمان، إثم الحرام وإثم المخادعة، لكن لو فعل الحرام دون خداع لكان عليه إثم الحرام فقط، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون.
ومن ضمن الحيل كذلك: حيلة اليهود عندما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، فماذا فعلوا؟ نصبوا الشباك يوم الجمعة ورفعوها يوم الأحد وقالوا: لن نصيد يوم السبت، اتخذوا آيات الله هزوا.
ومنهم أقوام يشربون النبيذ المحرم، والآن هناك أنواع من الأشربة في السوق مسكرة لو شربت كثيراً لسكرت، وهي كثيرة جداً وتتنوع وهي تسكر، بل قد تكون أشياء جامدة، لكنها تسبب السكر، يسمونها بغير اسمها، وهي مسكرة، وهؤلاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) وقد حصل في هذا الزمان عياناً بياناً، مبيناً في الواقع كما نراه ونسمعه مشاهداً، شربوها وسموها بغير اسمها.
ومثل ذلك مثلاً: أنهم يستحلون الغناء، وإذا جئت تجادلهم قالوا لك: أليست أصوات الطيور مثل النغمات الموسيقية، فلماذا تبيح أصوات الطيور وتحرم النغمات الموسيقية كلامها سواء، والغناء نص الله على تحريمه في الكتاب والسنة، وأصوات الطيور أمر سكت عنه الشرع فهو مباح، فأين هذا من هذا؟! وهذا القياس الفاسد يستحلون محارم الله بهذه الخدع.
مثال آخر: استحلال الربا على أساس أن الربا المحرم هو ما بين الغني والفقير، فإذا استغل الغني الفقير هذا هو الحرام، لكن لو كان بين غني وغني فلا بأس بذلك، يقولون: تاجر يستلف من البنك -مثلاً- مليون ريال، يعمل بها مشروعاً تجارياً، يستلفها بفائدة خمسة عشر في المائة، يسمونها فائدة، ويعمل نسبة الأرباح بعد سنة يربح المشروع عشرة في المائة، يسدد جزءاً من الفوائد، بعد سنتين يربح المشروع أكثر ويسدد بقية فوائد الربا الذي عليه ثم هو يمتلك المشروع، إذاً: الغني استفاد، والبنك استفاد وليس هناك أحد خسران، إذاً هذا ليس ربا، هكذا يقولون تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وهم يعلمون من الواقع أن البنوك سبب من أكبر أسباب نكبة كثير من التجار والمقاولين في هذا الزمان، الذين لم يستطيعوا تسديد المستحقات للبنوك في الأوقات المحددة بسبب أنهم لم يستطيعوا أخذ حقوقهم من الجهات الأخرى ومن الناس، فما استطاعوا تسديد هذه الفوائد التي يسمونها فصاروا رصيدهم بالناقص وبالسلب ثم أفلسوا وباعوا كل شيء، بل إن هذا الربا يفقر دولاً، وما لعبة صندوق النقد الدولي ببعيدة عن الحذقة من المسلمين الذين يعرفون أن هذه الفوائد المركبة تأخذ أموال ونعم ومقدرات شعوب بأكملها.
ولذلك فهؤلاء الذين يطنطنون اليوم في الجرائد والمجلات يقول قائلهم: إنه حلال وأنا أتحمل عنكم مسئولية هذه الفتوى عند الله يوم القيامة، ويبيحها لهم بأنها سندات استثمار وسندات وما شابه ذلك، وأن الذي يسلف يعطي نقوده إلى البنك ويأخذ سندات إنسان محسن إلى جهة أخرى تستفيد من الأموال التي في البنك، ولا بد أن يحسن إليه بأخذ فوائد، وهكذا يزخرفون القول زخرفة مما يوحي إليهم الشيطان الرجيم.
ومنهم أناس يظنون أن الربا حرام أكله وشربه، بمعنى: أنه لا يجوز أن تشتري به طعاماً، لكن لو اشتريت به بيتاً فهذا حلال، أو اشتريت به سيارة فهذا جائز، أو دفعت منه ضرائب -الضرائب حرام- ندفع من الربا للضرائب فهذا حلال، يالله! ومعلوم أن الربا لا يجوز الاستفادة منه أبداً، حتى في دفع الظلم عن نفسك.
لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فاليهود لما حرم الله عليهم الشحوم، أذابوها، قالوا: الأشياء الجامدة هي الحرام لكن لو جعلناها مائعة وأذبناها، فالحرام دون المذاب، فأذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها، فاستحقوا لعنة الله ومسخهم قردة وخنازير.
وقد ذكر أهل العلم في كتبهم من أنواع الحيل المحرمة أشياء منكرة، ذكر بعضهم: امرأة تريد أن تفارق زوجها فيرفض الطلاق والخلع ويرفض ويرفض، فذهبت إلى بعض هؤلاء المتلاعبين من أصحاب الحيل، فقال لها: لو ارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه ففعلت، فلما سمع الإمام أحمد هذا القول: (اكفري بالله تصيرين كافرة ثم ينفسخ العقد لأنه لا تحلي له لأنه مسلم وأنت كافرة ثم تسلمين بعد ذلك) فلما سمع الإمام أحمد قال: من أفتى بهذا أو عمل أو رضي به فهو كافر.
فانظر إلى أي درجة يستدرج الشيطان هؤلاء الناس بمسألة الحيل، قال ابن المبارك رحمه الله تعقيباً: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا، حتى جاء هؤلاء فتعلم الشيطان منهم.
والشريعة تعاقب على الحيل المخالفة لها، فالقاتل إذا قتل يحرم من الميراث في الشريعة، ولو عفا عنه أولياء المقتول وقالوا: لا نريد قصاصاً، لا يرث، والمريض في مرض الموت إذا طلق امرأته ليحرمها من الميراث ترث رغماً عنه، ومن سافر في الصيف إلى البلدان الباردة لا لأجل أنه يريد سفراً فليس عنده تجارة ولا علاج ولا شيء، لكن فقط لكي لا يصوم في الحر في الصيف، قال: أسافر حتى أفطر؛ لأني مسافر فأفطر، ثم أصوم في الشتاء، فهذا آثم بفعله ولا شك.
وكذلك فقد ضرب الله سبحانه وتعالى أمثلة من الأمور المحرمة، قال الله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] فلو أن إنساناً لا يريد زوجته، لكن لا يطلقها لكي تطلب هي الفسخ، فيمسكها ويحبسها ولا يعاشرها معاشرة الأزواج لأنه لا يرغب بها، فيمسكها حتى تطلب الطلاق وتطلب الخلع وتدفع من المهر الذي أعطاها أو كل المهر، فيذهب بما آتاها من قبل، فإذا حبسها لكي تفتدي نفسها وهو لا يريدها فهو ظالم وما أخذ فهو حرام.
ولما قصد أصحاب الجنة حصد محاصيلهم بالليل في سورة القلم لحرمان الفقراء عاقبهم الله عز وجل: قالوا: نصرمها مبكرين أو في الليل حتى لا يكون هناك وجود وحضور للفقراء فلا يأخذون شيئاً، ومثل هذه الحيل المحرمة الشيطانية أن بعض الناس إذا جاء قبل الحول بقليل ملك ماله لزوجته، قال: ملكتك مالي فإذا عدا الحول وانتهى استرد المال منها، قال: ما كان عندي ما ملكته، وبعضهم لكي ينجو من الزكاة كلما قاربت النصاب باع منها وغير أشياء بحيث إنها لا تكتمل نصاباً ويحولها إلى أنواع أخرى من الأموال لينجو من الزكاة، وهذا حرام ولا شك.
ومثل إخراج المكوس في قالب إعانة المجاهدين وسد الثغور وعمارة الحصون كما ذكر أهل العلم، وبالخلاصة فإن الذي يريد أن يتحايل على الله فإن الشيطان سوف يفتح له أبواباً واسعة جداً جداً، ولكنه يوم القيامة سيكشف أمره ويهتك ستره على رءوس الخلائق يفضحه الله سبحانه وتعالى، نسأل الله السلامة.