هناك تعليق لطيف للذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء في ترجمة يحيى بن حماد رحمه الله تعالى، قال: قال محمد بن النعمان بن عبد السلام: لم أر أعبد من يحيى بن حماد وأظنه لم يضحك، قلت - الذهبي -: الضحك اليسير والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين، فالمشايخ الذين لا يضحكون ويتبسمون: أحدهما: يكون فاضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة، فإذا كان هذا لا يضحك خوفاً من الله وحزناً على نفسه المسكينة فهذا معه الحق.
والثاني: مذموم لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً.
إذاً: الذي يتصنع عدم الضحك ويريد بذلك وقاراً دائماً ونحو ذلك، وربما صنعه كبراً، أي أنه لا يضحك مما يضحك منه الناس، ومما يتندر منه، ومن الأشياء الطريفة بالحق، ويزعم أنه لا يتأثر بها فلا يبدي أي نوع من أنواع الابتسامة فهذا إنسان متصنع للهيبة والوقار، وتصنعه ممجوجٌ مذمومٌ.
إذاً: التكلف الموجود في بعض النفوس من عدم الضحك زعماً للوقار تطرفٌ مقيتٌ، كما أن من أكثر الضحك استخف به -ما صار له قيمة عند الناس- ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه وأعذر في الشيوخ، هذه فائدة أخرى، أي: أنه ينبغي على من تقدمت به السن أن يراعي سنه وقربه من القبر، وأن الشاب ربما كان فيه من المرح وطبيعة روح الشباب ما يجعله يقع في هذا، لكن الشيخ الكبير لا ينبغي له الإكثار مثلما يقع من الشاب، ليس بنفس الدرجة هذا حكم السن.
قال: "وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله"، أي: التبسم وطلاقة الوجه لا علاقة لها بمسألة القهقهة والإغراق في الضحك، التبسم وطلاقة الوجه سنة، وإدامة التبسم سنة، "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وقال جرير: (ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم) فهذا هو خُلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَّاءً بالليل، بسَّاماً بالنهار"، هذه عبارة في غاية الجودة، فأعلى مقامات المسلم من كان بكَّاءً بالليل بسَّاماً بالنهار، هذا هو المطلوب.
وقال رحمه الله: "إذا كان الإنسان طبعه مرح -طبعه أنه يكثر من الضحك- ينبغي أن يقصر من ذلك"، لا يقول هذا طبعي اقبلوني على ما أنا عليه، ولا تلوموني، لا.
بل ينبغي عليه أن يعالج نفسه ويجاهدها ينبغي لمن كان ضحوكاً بساماً أن يقصر من ذلك ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم، هذه عبارات تربوية من الإمام الذهبي رحمه الله.
إذا وجدنا إنساناً مفرطاً في المسألة نقول: جاهد نفسك ولومها حتى لا تمجك الأنفس، ونقول للشخص العابس المنقبض: تبسم وأحسن خُلقك "وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم ويحسن خُلقه ويمقت نفسه على رداءة خلقه، وكل انحرافٍ عن الاعتدال فمذموم كما قال الشاعر:
كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
" القصد: الوسط، وكلا الطرفين مذموم؛ الإكثار من الضحك مذموم، ودوام العبوس مذموم، "ولا بد للنفس من مجاهدة وتأديب".
انتهى كلامه رحمه الله، كانت هذه عبارة نفيسة علقها الذهبي في ترجمة يحيى بن حماد رحمهما الله تعالى.
وينبغي أن يعذر من كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة أكثر من الذي يتصنع الضحك ويقهقه، فبعض الناس وصل بهم التقليد إلى درجة من السوء أنه صار يقلد في ضحك الممثلين، وينظر من أعلى الناس صوتاً في الضحك فيقلده، وكيف يقهقه فلان فيقهقه مثله!! وهذا لا شك أنه من الأمور المذمومة، وقد ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي الوليد الباجي في كتاب فرق الفقهاء، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الوراق -وكان ثقةً متقناً- أنه شاهد أبا عبد الله الصوري وكان فيه حسنُ خلقٍ ومزاحٌ وضحكٌ، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جبل عليه -أي: هذا العالم كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة فهو مرحٌ أو يغلب عليه الضحك، لكنه لا يتقصد ذلك أو يتكلفه أو يكثر منه رغبة، لا.
لكن قد يكون عنده شيءٌ من هذه النفسية التي يهجم عليها الضحك هجوماً قوياً يصعب مدافعته- وكان فيه حُسن خلقٍ ومزاح وضحك، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جُبل عليه، ولم يكن في ذلك بالخارق للعادة، فقرأ يوماً جزءاً على أبي العباس الرازي وعَنَّ له أمرٌ ضَحَّكَهُ، وكان بحضرة جماعة من أهل بلده فأنكروا عليه، وقالوا: هذا لا يصلح ولا يليق بعلمك وتقدمك أن تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تضحك وكثّروا عليه، وقالوا: شيوخ بلدنا لا يرضون بهذا، فقال: ما في بلدكم شيخٌ إلا يجب أن يقعد بين يدي ويقتدي بي، ودليل ذلك: أني قد صرت معكم على غير موعد، فانظروا إلى أي حديث شئتم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرءوا إسناده لأقرأ متنه، أو اقرءوا متنه حتى أخبركم بإسناده -أي: الإكثار عليه والتشنيع والتعنيف من أجل هذه الخصلة الجبلية وأنه حصلت منه مرة بمجلس ونجعل من الحبة قبة هو أيضاً أمر مجافٍ للعدل- ثم قال الباجي: لزمت الصوري ثلاثة أعوام فما رأيته تعرض لفتوى، أي: كان ورعاً عن الفتوى، قلت - الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي عبد الله الصوري -: كان من أئمة السنة وله شعرٌ رائق، وقد مات الصوري سنة (441هـ).