أما بالنسبة للضحك فلا شك أن الإكثار منه مذموم شرعاً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
إذاً: حال المؤمن الجاد المتصل قلبه بالله، المستحضر لعظمته سبحانه وتعالى، الذي يتذكر ما في اليوم الآخر وما يحدث يوم القيامة من الأهوال، ويعرف شدة عذاب النار لا يكثر من الضحك، فإننا ما خلقنا للضحك واللهو واللعب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً حكم كثرة الضحك وهو يوصي أبا هريرة: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأقلّ الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).
هذا الحديث يبين حكم الضحك، حتى ذكر ابن النحاس رحمه الله في كتابه العظيم تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، قال في تعداد الصغائر -لأنه ذكر فصلاً يتعلق بالكبائر وفصلاً يتعلق بالصغائر- ومنها -من الصغائر-: كثرة الضحك بلا سبب، كذا عدها العلماء من الصغائر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (إياك وكثرة الضحك! فإنه يميت القلب)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر متصلاً قلبه بربه، فكان لا يُكثر من الضحك، ولا يقهقه كما يفعل كثيرٌ من الناس، بل كان عليه الصلاة والسلام وقوراً متزناً هادئاً، فقد جاء في صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت، قليل الضحك) وهاتان صفتان ينبغي أن يتخلق بهما المسلم الجاد، ولا شك أن هذا يعود إلى تقدير وتذكر ما خلق الإنسان من أجله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وتصف عائشة رضي الله عنها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام البخاري، قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يتبسم).
وجاء في رواية أخرى: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط حتى ترى لهواته).
واللهاة: شيء في الفم، تظهر إذا أغرق الإنسان في الضحك، فانفتح فمه من شدته، فتظهر هذه اللهوات، ولذلك فإن الإقلال منه والاقتصاد وجعل أكثره تبسماً هو السنة.
وكذلك فإن الضحك منه ما يكون كفراً كما إذا اشتمل على استهزاءٍ بشيءٍ مما أنزله الله سبحانه وتعالى، فإذا ضحك سخرية مما أنزله الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من شخص النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه كافر، وقد أتاك نبأ الكفار من قريش لما اجتمعوا عند الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي، قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي -انظر كيف يصفون النبي صلى الله عليه وسلم- أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم -أشقى القوم- ابن أبي معيط، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعضٍ من الضحك.
وفي رواية للبخاري أيضاً: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض حتى جاءت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأزالته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تسبهم من شجاعتها بالرغم من صغرها رضي الله عنها.
ومن الأمور المتعلقة بآداب الضحك: أنه لا يجوز الكذب لإضحاك الناس، كما يفعل كثيرٌ من المضحكين الذين همهم إضحاك القوم، فإنهم يكذبون لأجل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الحسن الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما: (ويلٌ للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له ويلٌ له).
وبهذا تعلمون شيئاً من الأضرار الشرعية الناجمة عما يسمونه اليوم في عالم الفن والمسرحيات (بالكوميديا) الذي من أجله يعملون الأفلام والمسرحيات المضحكة، والغرض منها إضحاك الناس؛ فيكذبون لأجل ذلك، وكثيراً ما يستهزئون بالدين، أو بأسماء الله سبحانه وتعالى، يحرفون فيها، أو يلمزون المطوعين من المؤمنين من عباد الله الصالحين، ولا شك أن هذا كفر.
كثير من المسرحيات التي صدرت مؤخراً فيها هذا الكفر وهي في قالب (الكوميديا)، ثم لو قلنا: إنها لا تشتمل على الكفر فهي تشتمل على الكذب، فإن فيها كثيراً من الكذب، ثم إن قلنا: إنها سالمة من الكذب، فإن مبناها على إضحاك الناس ضحكاً متوالياً حتى أن بعضهم من شدة الضحك قد يُلقى على الأرض، وتعلو أصوات القهقهات من المتفرجين، فهي تقسي قلوب جميع الناظرين إليها، ولا شك أن كثرة الضحك تميت القلب.
وبذلك نعلم مخالفة هذه المسرحيات والأفلام الكوميدية لآداب الشريعة الإسلامية، ولذلك يقوم القائم منها وبطنه موجوعٌ من شدة الضحك، وقد علا قلبه غلاف سميكٌ من الران والغفلة التي نجمت عن مشاهدة هذا الفيلم أو المسرحية، وما عُهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحداً من أصحابه كانوا يجلسون مجلساً كله ضحك، من أوله إلى آخره، يجمعون به سائر الطرف وسائر الأشياء المضحكة ويعملون مجلساً للضحك، فبهذا يُعلم بأن هذه الأشياء كثيرٌ منها محرم والباقي مكروه.