النصيحة لها شروط في الناصح والمنصوح والنصيحة في ذاتها، ولا يسعنا الوقت للكلام عن هذه الأشياء جميعها.
ولكن لا بد للناصح أن يكون -يا إخواني- رفيقاً بمن ينصح، وألا يكون متعالياً عليه بنصيحته، أو ينصب نفسه أستاذاً له في إلقاء النصيحة؛ لأن هذا الأمر يسبب نفور الشخص المقابل؛ لأنه يشعر بأنك تتعالى عليه وتتكبر عليه أثناء نصحه، وقد جبلت النفوس على رفض مثل هذه الطرق التي تؤدي إلى إهانتها في الظاهر، لذلك كان لا بد من الرفق بالناس، وعدم التكبر أو التعالي عليهم أثناء إسداء النصح لهم، وتجنب الألفاظ الجارحة التي تؤدي إلى صدود كثير من المسلمين عن تقبل النصيحة.
بعض الناس عندما يرى شخصاً لا يطبق شيئاً من شرائع الدين في مظهره أو أعماله، فقد يقول له: أنت فاسق، أنت فاجر، أنت كذا، أنت كافر، أنت لا تفعل كذا، أنت عاصٍ، أنت مرتد، أنت خارج عن الدين، أنت كذا وأنت كذا، من هذه الألفاظ التي تنفر الناس بظاهرها، وقد يكون الحق مع هذا الرجل الناصح أن هذا الأمر الذي ينصح به هو حقيقة إذا لم يطبقه الشخص المقابل فإنه قد يكون فاسقاً؛ لأن الفسق معناه: الخروج عن طاعة الله عز وجل، ومعصية الله، فلذلك سميت الثمرة إذا انشقت عن قشرتها أنها فسقت كما تقول العرب، فإذاً الخروج عن طاعة الله ومعصيته فسق، هذا لاشك فيه مطلقاً، ولكن يا أخي عندما تقول للشخص الآخر مباشرة قبل أن تقيم عليه الحجة، تقول: أنت فاسق، أنت كذا، أنت مرتد، أو أنت كافر، أو أنت عاصٍ، مثلاً، هل حلت المشكلة؟
صلى الله عليه وسلم كلا، لم تحل المشكلة مطلقاً، لذلك كان لا بد من الترفق في النصيحة.
لقد حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم من الأحداث التي هيأها الله حتى نرى بها الطريقة الصحيحة في إسداء النصيحة، حدثت أشياء عظيمة كان موقفه عليه السلام منها مدعاةً ومثاراً للتعجب والاندهاش من حلم ذلك الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم.
هل هناك ذنب أقبح من أن يبول إنسان في المسجد أمام الناس؟! كلا، وربما لا يكون هناك في ذلك الموضع ما هو أقبح من ذلك، أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف عالج الأمر؟ لما همَّ الصحابة بذلك الرجل الأعرابي الجاهل الذي أتى ليبول، قال: (لا تزرموه، تقطعوا عليه بوله) وبعدما انتهى الرجل؛ ناداه عليه الصلاة والسلام وعلمه حق المساجد وواجب المسلم نحو المسجد، وأن هذا الأمر لا يجوز وذلك بكل رفق وتؤده.
كذلك الصحابي رضي الله عنه الذي تكلم في الصلاة جاهلاً بحكم الكلام في الصلاة، ماذا قال بعدما نصحه عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلماً قط قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما كهرني ولا نهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن).
فإذاً أيها الإخوة، هذا الأسلوب الجذاب في النصيحة هو الذي يحمل الناس على قبول النصيحة، وهذه المسألة فيها خطورة كبيرة؛ لأن كثيراً من الناصحين يقولون كلاماً حقاً، فالحق معهم في كل كلمة يقولونها، فالحكم الذي أمروا به صحيح والدليل صحيح، والمنكر الذي نهوا عنه فعلاً منكر، وقامت الأدلة من الكتاب والسنة على أنه منكر، وتوجيههم للناس أن هذا طريق الحق صحيح، والمعالم التي في هذا الطريق صحيحة، لكن المشكلة أن أسلوبهم يعمي على الناس قبول هذا الحق.
أيها الإخوة: هذه مسألة خطيرة؛ أن نعرض على الناس حقاً، ولكن لا يقبلونه بسبب أسلوبنا نحن، هذا يؤدي إلى نكوص الناس عن شرع الله وارتدادهم عن دين الله واتباع الباطل، إذا كان معك الحق يا أخي كما أنه حسن في ذاته؛ فكن أنت حسناً في تأديته إلى الناس، ولذلك نجح كثير من أهل الباطل في إيصال باطلهم للمسلمين مع أنه باطل بسبب حسن الأداء، فأنت ترى كثيراً من المبشرين النصارى قد نجحوا في إدخال كثير من المسلمين في دين النصرانية أو إبعادهم عن دين الإسلام، هل كان ذلك بسبب أن الأشياء التي عرضوها على المسلمين صحيحة أو حق أو حسنة أو طيبة؟ كلا، إنها شرك أو كفر أو ردة عن دين الله أو فسق أو معصية، ولكن نجحوا في ذلك بسبب الأسلوب الحسن الذي استطاعوا به أن ينفذوا إلى قلوب الناس، فمن أشد الأمور ألماً أن ترى أهل الباطل يصلون إلى قلوب الناس بحسن تخطيطهم، وجودة أسلوبهم، ورقة ألفاظهم، وجمال حديثهم وكلامهم، وما هم عليه باطل، وترى أصحاب الحق الصحيح أصحاب الحنيفية السمحة لا يستطيعون أن يوصلوا ما لديهم إلى قلوب الناس.
هذه أيها الإخوة من أشد ما في واقع المسلمين ألماً، هذه واحدة، ومع ذكرنا لهذا الجانب فإننا لابد أن نعرج على أولئك المنصوحين الذين توجه إليهم النصيحة، فأقول لكل واحد أسديت إليهم نصيحة صحيحة تيقن أنها حق: يا أخي! لا يحملنك شيء من فضاضة أخيك المسلم أو تعديه عليك بجزء من اللفظ أو خشونة في الأسلوب -لو حدث هذا- لا يحملنك هذا على رفض ما لديه من الحق؛ لأن هذه من أعظم المنكرات أن ترفض الدليل وترفض نص الكتاب والسنة، وترفض الحق؛ لأن فلاناً قد قسا عليك شيئاً ما في الأسلوب، لأن هذا استبدل الحسنة بالسيئة، ألأنه قسا عليك قليلاً في الأسلوب ترفضه؛ وترفض ما لديه من الحق العظيم الذي أتى من عند الله؟! ترفض أحكام الدين وترفض أحكام المنكر الذي أنت مقيم عليه؛ بسبب خطأ في الأسلوب، هذه رعونة وطيش وحمق، لا ينبغي مطلقاً أن يحصل، نرفض الحق لمجرد أنه أسيء إلى شخصياتنا في طريقة عرضه، كلا يا إخواني، لنكن أصحاب حق ومبدأ وإن واجهنا شيئاً من الخشونة أو القسوة، فالحق عندنا أعلى وأعظم وأغلى من الأسلوب، وإن كان الأسلوب مهماً ولكن الحق أهم، وإذا استطعنا فهم هذين الجانبين زال الإشكال واقترب الناس من الدين وسمع كل منصوح لناصحه.
ومن الأمور التي ينبغي عقلها وفهمها وفقهها للناصح: أن يعرف الفرق بين النصيحة والتعيير، أن يعرف الفرق بين النصيحة والتشهير، لأن الناس لهم كرامة، والناس لهم مشاعر وأحاسيس، ولذلك لا بد من احترام أحاسيسهم ومشاعرهم.
أيها الإخوة: النصيحة تسدى بقالب حسن سراً بين الناصح والمنصوح؛ لأن الناس لا يريدون بطبيعتهم أن تقرأ على الآخرين أخطاءهم وعيوبهم، ففي المجالس تقول: يا فلان! لماذا فعلت أمس كذا؟ ولماذا قلت كذا؟ أنت مخطئ وأنت كذا وكذا، هذا تشهير لا يصح أبداً، لا بد أن نحفظ حقوق الناس وكرامتهم، لا بد أن نصون مشاعرهم وأحاسيسهم.
لكن يحصل أحياناً أن الشيء الذي تنصح به لو أخرته يفوت وقته، فلا بد أن تنصح به الآن قبل أن يفوت وقته، كما لو أنني قلت لهذا الأخ: قم واركع ركعتين، فإن هذا لا يعتبر تجريحاً ولا تشهيراً؛ لأنه لو ما قام الآن وصلى فإن وقتها يفوت، ولأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر المسلم إذا دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين، تحتم عليه أن ينفذ الأمر الآن، فإذا تركته ونصحته بعد الصلاة مثلاً؛ فإن هذا الأمر يفوت عليه، ولذلك فإن سليكاً الغطفاني لما دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب كما ورد في صحيح مسلم جلس سليك مباشرةً، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أركعت ركعتين؟ قال: لا.
قال: قم فاركع ركعتين) هذا أمام الناس لا يسمى تشهيراً ولا تعييراً، لأن هذا وقته وإذا ترك؛ يفوت الوقت، ولكن لا يمكنك أن تؤجل النصيحة إلى ما بعد انفضاض المجلس وانتهاء هذه الجلسة التي يجلسها الناس، ومع ذلك تنصح الرجل أمام الآخرين، هذا غير صحيح.