ولننتقل أيتها الفتاة المسلمة إلى المقالة الثانية في هذه المجلة وهي بعنوان: "من مشكاة النبوة" لقد أخرجت كتب السنة حديثاً عجيباً فيه ذكر حال المرأة المسلمة في حرصها على الدين، ورغبتها في الخلق، وصبرها على الابتلاء، ومواجهتها للواقع والأحداث بجناب ثابت، وعقل ناضج، إنها قصة المرأة الصالحة المرضية رضي الله عنها أم سليم أم أنس بن مالك، تلك المرأة التي تركها زوجها الكافر لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ لأنه لا يصبر عن شرب الخمر والإسلام يحرم الخمر، ولذلك انطلق إلى الشام وترك المرأة والأولاد لأجل الخمر، وهذا ما يفعله كثير من الفسقة والعصاة، يتركون أهاليهم بالأيام والأسابيع ليسافروا إلى بلاد الفسق والمجون ليشربوا الخمر، ويتعاطوا المخدرات، ويقعوا في الفجور والفسق، وذهب ذلك الرجل المسخوط عليه، وبقيت أم سليم مع أولادها وهي المسلمة التي آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ترعى أولادها صابرة على قضاء الله.
فجاء أبو طلحة يخطبها، فكلمها، وأبو طلحة رجل غني مشهور، لكنه كان كافراً غير مسلم، فقالت: يا أبا طلحة! ما مثلك يرد ولكنك امرؤ كافر وأنا امرأة مسلمة، لا يصلح لي أن أتزوجك، فأغراها بالذهب والفضة قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره، وبالفعل أسلم أبو طلحة عند النبي صلى الله عليه وسلم وتزوج أم سليم، قال الراوي: فما بلغنا أن مهراً كان أعظم منه أنها رضيت الإسلام مهراً، فتزوجها وولد له منها ولد كان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، وحسن إسلام الرجل لأنه دخل في البداية الإسلام من أجل الزواج، وبعد ذلك دخل الإيمان في قلبه، فكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم مرتين.
وكان يحب ولده حباً شديداً؛ حتى تألم أبو طلحة جداً، وفي يوم من الأيام ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمات الولد في غياب أبيه، فماذا فعلت المرأة الصابرة المصابرة المجاهدة؟ قالت: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له، فسجت عليه، ووضعته في جانب البيت، الله أكبر ما أقوى جنابها، وأثبت فؤادها، وأعلى إيمانها! فإنها هيأت الصبي يعني: غسلته وكفنته بعدما طيبته، وغطته ووضعته في جانب البيت، جاء أبو طلحة ومعه ضيوف، طبخت الطعام للضيوف حتى أكلوا، سأل الرجل عن ولده قالت بالتورية دون كذب: هو الآن أسكن ما يكون، أو أرجو أن يكون قد استراح، ففهم أنه: استراح من المرض، وهي تقصد استراح من الآلام والدنيا، وذهب إلى الله، تعشى القوم وخرجوا وهي تطيبت لزوجها، فبات معها تلك الليلة وأتاها، ثم قالت له بعد ذلك في آخر الليل: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية لهم فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا.
قالت: فإن الله عز وجل كان أعارك ابنك عارية ثم قبضه إليه فاحتسب واصبر، غضب أبو طلحة لكنه استرجع وحمد الله.
وفي الصباح اغتسل وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما) يدعو لهما بالبركة مما حصل في تلك الليلة فحملت المرأة بإذن الله.
وكان أبو طلحة وأم سليم يخرجان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد إلى المعارك، وهي تسعف وتنقذ وتقوم بالأدوار لخدمة الإسلام وأهله، حتى ضربها المخاض قبل أن يصلوا إلى المدينة، تقول: يا أبا طلحة! ما أجد الذي كنت أجد، تقول: ما أحس بآلام مثل العادة في المخاض، وهذا من بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فولدت غلاماً فقالت لابنها أنس (يا أنس! لا يطعم شيئاً -ما أرضعت الولد، ولا وضعت في فمه شيئاً- حتى تغدو به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت معه بتمرات يقول أنس: بات يبكي، وبت مجنحاً عليه، أرعاه إلى الصباح، ثم ذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بعض التمر فمضغهن، ثم جمع بساقه المبارك صلى الله عليه وسلم، ثم فغر فاه -يعني الصبي- فأوجره إياه -جعله في فم الصبي- فجعل يحنك الصبي -وهذه سنة عند الولادة أن يحنك الصبي بالتمر، بأن تؤخذ تمرة وتعجن بين الأصابع وتلين ثم تمرر على حنك الصبي من الأعلى والأسفل- وجعل الصبي يتلمظ، ويمص بعض حلاوة التمر، وريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ما فتق أمعاء ذلك الصبي ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: انظروا إلى حب الأنصار التمر، قال قلت: -يعني أنس - يا رسول الله! سميه، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله فما كان في الأنصار شابٌ أفضل منه)، قال: فخرج منه رجال كثير يعني: من صلبه خرج رجال كثيرون، وقتل عبد الله هذا مجاهداً في سبيل الله بعد ذلك، فما أجمل تلك السيرة العطرة لـ أم سليم رضي الله عنها، وما أحسنه من مثال ضربته لنسائنا عل الله أن يهديهن للاقتداء بها.