أغارت خيل النبي عليه الصلاة والسلام قِبل نجد، وكانت ديار كفر لم يستول عليها المسلمون بعد، ولم تطبق فيها الشريعة، أغاروا عليها وأسروا رجلاً مهماً وهو ثمامة سيد أهل اليمامة، واليمامة: منطقة معروفة في نجد.
فأتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام لقد كان المسلمون يُرهبون الكفار، وكان الكفار في قلق وانزعاج دائم، لأن المسلمين في غارات وحراسات مستمرة، لا يشعر الكفار بالأمان، وهذا من دوافع دخول كثير منهم في الدين؛ حتى يأمنوا على أنفسهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم).
لقد أسرت خيل المسلمين ذلك الرجل المهم عند الكفار، وهو سيدهم، فكانت تلك ضربة معنوية قاصمة لأولئك الكفرة لأن سيدهم قد أخذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ملئ حكمة وبعد نظر؛ ولذلك أمر بأن يربط ثمامة لكن ليس في خيمة، ولا في بيت مغلق، أو في سجن، وإنما وضع في المسجد، وربط إلى سارية من سواري المسجد.
إن ربط ثمامة إلى سارية من سواري المسجد معناه أنه يرى يومياً ما هي حياة المسلمين في المسجد، كيف يأتون إلى الصلاة مبكرين، وكيف يصلون ويدعون، ويذكرون الله، يُرفع الأذان فيطرق مسامع ثمامة خمس مرات في اليوم، ويسمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، وسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها غاية في التأثير، فهذا جبير بن مطعم يقول عندما سمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام: ما سمعت قط صوتاً أحسن منه، عندما سمع قراءته بالتين والزيتون، وكذلك سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] الآيات قال: فكاد قلبي أن يطير.
فسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها مؤثرة.
ثم إن المسجد مكان للصلح، كما في قصة كعب بن مالك وابن أبي حدرد لما توسط النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فوضع صاحب الحق شيئاً من حقه، وأمر الآخر أن يبادر بالسداد، ومكان للتزويج وعقد النكاح، والتوفيق بين المسلمين، ومكان استضافة الغرباء، وإكرام من لا بيت له كأهل الصفة، ومكان لجمع التبرعات والصدقات، وذلك عندما جاء قوم مجتابي النمار إلى المسجد، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين بالصدقة، وكان مكاناً لإرسال الجيوش والبعوث، ومكاناً تجلب إليه الغنائم وتقسم على حسب شرع الله، ومكاناً تجمع فيه زكاة الفطر وتقسم على الفقراء، ويؤتى فيه بخراج البحرين ويوضع في المسجد، ومكاناً للفتاوى والأسئلة والإجابات، وحلق الذكر ودروس العلم، والخطب النبوية المؤثرة، وهو المكان الذي يجتمع فيه المسلمون في المدينة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليوقروه، ويعظِّموه، ويطيعوه صلى الله عليه وسلم، وهو المكان الذي يأتي الناس ليصلوا فيه النوافل والتراويح جماعة أحياناً.
وهذه المشاهد الموجودة في المسجد كفيلة بالتأثير في النفوس، ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام من حكمته بربط ثمامة في المسجد، وليس في أي مكان آخر، وحول موضوع دخول الكافر إلى المسجد سنتحدث في آخر الدرس إن شاء الله.