ثم أخذ أسيد بن حضير حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً، قال: "أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به" انظروا -أيها الإخوة- كيف يغير الإيمان وجه الرجل الذي ينتقل من الجاهلية إلى الإسلام، فيعلو وجهه نور الهدى، فيتبين الناس تغيراً كبيراً في ملامح هذا الرجل وهو لم يتغيب عنهم إلا ساعة من الزمن، يختلف وجهه وتختلف التقسيمات والنظرات والإشراقات والتعبيرات على ذلك الوجه، إنه الانفعال والتفاعل مع هذا المنهج الذي يؤدي إلى إنشاء هذه النماذج التي تؤثر في الناس بشكلها ومضمونها، التي تؤثر في الناس بالقدوة قبل أن تؤثر فيهم بالكلام، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت -بلغني من الأخبار- أن بني حارثة -أناس آخرون من أهل المدينة - خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه - أسيد بن حضير الآن يريد أن يستجيش مشاعر سعد بن معاذ؛ ليشعر بشيء من الحمية تجاه هذا الرجل من بني قومه ليذهب ويحميه- وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك، قال: فقام سعد بن معاذ مغضباً -وكان أهل الجاهلية فيهم حمية- مبادراً للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، عرف أن هذه خطة من أسيد حتى يذهب سعد ويسمع من هذين الرجلين المسلمَين.
فوقف عليهما متشتماً، ثم قال لـ أسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره، وقال مشيراً لـ مصعب بن عمير: علام تأتينا في دورنا لهذا الوحيد الطريد الطريح الغريب؟ يسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه، ولا أراكم بعدها بشيء من جوارنا؟ فرجعوا مرة أخرى مصعب وصاحبه مرة أخرى، ثم إنهم عادوا ثانية لبئر مرق أو قريب منها؛ رجاء أن يأتي سعد مرة أخرى، فأُخبر بهم سعد بن معاذ فتواعدهم توعداً دون الوعيد الأول، فلما رأى أسعد بن زرارة منه ليناً قال له وقال مصعب له: أوتقعد فتسمع فإن رضيت أمراً -رغبت فيه- قبلت، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، وذكر موسى بن عقبة رحمه الله في مغازية أن مصعب قرأ على سعد بن معاذ أوائل سورة الزخرف، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فيه من إشراقته وتهلله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، وتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم سعد بن معاذ بعد أن رجع إلى قومه مسلماً- قال: يا بني عبد الأشهل! كيف تعملون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأعيننا نقيبةً، بعدما عرف واستيقن منهم عن صورته وقررهم على سيادته عليهم، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام؛ حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
والله لا أكلم أحداً فيكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله، بهذه القوة يعرض سعد بن معاذ دعوته على قومه، وبهذه الجرأة يصارحهم مصارحةً شديدة تناسب قوة هذا الدين وعظمته.
إن الجرأة في عرض الدعوة، وقوة الكلام حولها أمام الناس هو الذي يؤثر في نفسياتهم، ولذلك يقول الراوي: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة، مقام واحد، كلمات جريئة مندفعة من قلب مؤمن مستمدٍ من الله العون والتوفيق، يسانده الإخلاص، يؤدي إلى إسلام القوم بأكملهم، فأقام مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة عند سعد بن معاذ يدعوان الناس إلى الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
وفي رواية أبي نعيم في دلائل النبوة: فرجع سعد وقد هداه الله تعالى، ولم يظهر لهم الإسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام، وأظهر إسلامه، وقال: من شك فيه من صغير أو كبير أو أنثى أو ذكر فليأتنا بأهدى منه، يقول لقومه: الذي يشك منكم في صحة هذا الدين فليأتنا بأهدى منه، حتى نتبعه، فوالله لقد جاء أمر لتحزن فيه الرقاب، ما تعلم سعد بن معاذ من الإسلام إلا الشهادتين، وكلمات بسيطة يسمعها من مصعب، ماذا فهم؟ فهم أن هذا الدين لا بد أن تحز فيه الرقاب، أي: لا بد فيه من الجهاد، ولا بد فيه من البلوى، ولا بد فيه من الفتن والقتل والمقاتلة، انظروا إلى عمق الوعي الذي ارتكز في ذهن سعد بن معاذ عندما دخل في الإسلام، ما حجم الوعي الذي يدخل في عقول الناس اليوم عندما يهدي الله رجلاً واحداً منهم مثلاً؟ هل يفقهون من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أنه لا بد من نصر الإسلام، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله هل يفهم الناس؟ فكانت أول دار من دور الأنصار أسلمت بأسرهم، وانتقل مصعب بن عمير إلى حماية سعد بن معاذ.