وكذلك من الأمور المهمة في تربية النفس على العبادة التنويع في العبادة: التنويع فيها من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، أن نوع علينا العبادات، فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة، ومنها ما يكون بالمال كالزكاة، ومنها ما يكون بهما معاً، مثل حج بيت الله الحرام، فإنه تجتمع فيه العبادتان المالية والبدنية، ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء، وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة، والفرائض تتنوع والسنن تتنوع، هذه الصلاة فيها فرائض متنوعة في الوقت، وعدد الركعات، وسنن الصلاة متنوعة، فهناك سنن رواتب وهناك ما هو أعلى منها في قول بعض أهل العلم وهو صلاة الليل، ويوجد ما هو أدنى منه وهو مثل صلاة الضحى والأربع التي قبل العصر أي: بين الأذان والإقامة قال صلى الله عليه وسلم فيها: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) فهذه سنة، ولكن دون السنن الراتبة -الاثني عشر- في المرتبة.
وإذا التفت إلى هذا النوع من قيام الليل لوجدته أنواعاً متنوعة، فمنه تستطيع أن تصلي واحدة وثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً، وإحدى عشرة، تستطيع أن تصلي مثنى مثنى، وفي قول بعض أهل العلم في رواية: (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً) ووردت رواية: (أنه يصلي خمساً بتشهد وسبعاً بتشهد واحد وتسعاً بتشهد واحد) فإذاً: الكيفيات تتنوع، فالتحيات -الصلاة الإبراهيمية- صيغها متنوعة، ودعاء الاستفتاح متنوع الصيغ.
هذا التنوع يمنع الملل، وهذا من رحمة الله، وكذلك الصيام فيه معنى لا يوجد في الزكاة، والزكاة فيها معنى لا يوجد في الصلاة، والحمد لله أن عبادات هذا الدين ليست نوعاً واحداً ولا متماثلاً وإنما هي متنوعة تنوعاً كثيراً، ولذلك يحصل التجدد في النفس، فلا تمل وتنجذب وتستلذ بالعبادة.
وسبحان الذي جعل أبواب الجنة منوعة على أنواع العبادات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في البخاري: (من أنفق زوجين في سبيل الله) -من أي شيء؟ من الإبل أو من البقر أو من الغنم أو من الذهب أو من العبيد- (نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) الحديث.
أبواب الجنة منوعة، ومنها باب الوالد: (الوالد أوسط أبواب الجنة) كما جاء في حديث أبي الدرداء، يعني: أن بر الوالدين باب من أبواب الجنة، فتنوعت أبواب الجنة على أنواع العبادات، وهناك من يدعى من هذه الأبواب، ومنهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولعله مما يفسر ذلك الحديث المتقدم، في عيادة المريض والجنازة وإطعام المسكين والصيام، ما المقصود بباب الصيام وباب الصلاة؟ هل معناها أن المصلين يدخلون من باب الصائمين والذين لا يصلون يدخلون من باب آخر؟ كل هؤلاء الذين يدخلون من هذه الأبواب يدعون -حسب الحديث- يدعون من الأبواب المختلفة، كلهم من القائمين بالواجبات الذين يدخلون الجنة ولا شك، لكن الذي يدعى من باب الريان المكثر من الصيام النفل، والذي يدعى من باب الصلاة: الذين يكثرون من صلاة النفل، والذي يدعى من باب الصدقة المكثر من الصدقة النفل، وإلا فإنهم جميعاً يصلون الفرائض، ويصومون رمضان، ويؤتون الزكاة الواجبة.
ولكن لأن بعض النفوس تستلذ بعبادة دون أخرى، وتميل إلى نوع دون آخر، وقد تزيد فيه وتكثر منه، فالله جعل لهم باباً يدعون منه على حسب العمل الذي قد استكثروا منه في الدنيا، وإلا فجميع من يدعى ممن أدوا الفرائض بطبيعة الحال، وهناك أناس يتقنون فن الجهاد ويحبون الجهاد ولا يتركون سريةً ولا جيشاً إلا يخرجون فيه، وهكذا وأناس اشتهروا ببرهم لآبائهم وأمهاتهم، ملازمين لهم، طائعين لهم بطاعة الله، هؤلاء لهم باب يدعون منه، لكن الجميع قائمون بالواجبات تاركون للمحرمات، هذا واجب عليهم، لكن المكثر من نافلة من النوافل يدعى من بابه يوم القيامة، وهذا التنوع الاستفادة منه في جذب النفس إلى العبادة، لأن بعض الناس -مثلاً- قد يكون له جسم قوي، ويصبر على الجوع، ولا يشعر بألم الجوع كثيراً، فيجد الصيام سهلاً بالنسبة له، وآخر عنده مال كثير فالصدقة سهلة بالنسبة له، وإنسان لسانه سهل الحركة، وكل الألسنة سهلة الحركة لكن عنده أن الذكر مهم، عنده أن الذكر له مرتبة خاصة، مكانة خاصة في نفسه، فهو يكثر منه، فتراه دائماً يذكر الله ولا يمل لسانه من ذكر الله، ولا يفتر لسانه من ذكر الله، ولا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، فهذا النوع عنده سهل، فأقول: لا بأس أن الإنسان إذا وجد نافلة من النوافل سهلة عليه أكثر من غيرها، فالأفضل له أن يستزيد منها وأن يكثر منها وهو مبشر بهذا الأجر، وهو الوارد في حديث دعاء أصحاب النوافل من أبوب الجنة التي خصصت لهم، وهناك عبادات للإنسان فيها طعم خاص، ولها أثر خاص في النفس مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يحبهم الله: (الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب له نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) هذا الرجل أصابه ألم السفر وتعب السفر مثلما أصابهم، لما أحبوا أن يمسوا الأرض، مسوا الأرض ليناموا فإذا به يتوضأ ويقوم للصلاة حتى يوقظهم لرحيلهم، هذا يحبه الله.
(والرجل يكون له جار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ضعن) إما أن يرحل هو عن جاره أو أن يرحل الجار عنه، أو يموت واحد منهما، فهو صابر على أذى الجار، هذه عبادة لها لذة في النفس وأثر.
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك وتدرك حاجتك) فالاعتناء باليتيم عبادة لها أثرها في النفس، ولذلك قال: (أتحب أن يلين قلبك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك).