ولقد ضرب يوسف عليه السلام مثلاً عالياً جداً في رفض الحقد من نفسه، تصور وتأمل فيما فعل مما فيه دلالة على عظم خلقه ومنزلته نبوته، لقد ظلمه إخوانه ظلماً بيناً عظيماً، حقدوا عليه فماذا فعلوا به؟ حسدوه على عظم المنزلة من أبيه، ظلموه ظلماً عظيماً، أخذوه من بين أبيه وأمه، وأغلظوا له واجتمعوا حوله في العراء لم يردعهم صغر سنه، ولا الغربة والوحشة التي سيكون فيها، ولا توصية أبيهم لهم، حرموه من أبيه وأمه وأخيه الأصغر وألقوه في غيابة الجب في ظلامته ووحدته ووحشته بلا أنيس، على شفا هلكة، يصرخ ولا يجاب، ما في قلوبهم رحمة في تلك اللحظات، وكانوا سبباً في بيعه واستعباده، صار عبداً ذليلاً وقد كان حراً عند أبيه:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وليس من اليسير على النفس أن تنتقل من حال الحرية إلى حال الذل والعبودية، ولكن ألقوه في غيابة الجب، وصاروا سبباً في بيعه في سوق مصر -سوق النخاسة- واشتري عبداً ذليلاً، ثم كانت هذه الغربة سبباً في ابتلائه ووقوعه في السجن؛ لأنه لما وقع في قوم لا يعرفون قدره كادوا له وسجنوه، والمسألة كلها متسلسلة؛ هذه الأذية من الأذية الأولى وهي إلقاء إخوته له في الجب، لما حسدوه حقدوا عليه وفعلوا ما فعلوا، هذه الأفعال في الشخص العادي ماذا تورث؟ المتوقع أن تورث الحقد الأسود الدفين عليهم، لكن نفس النبي تأبى هذا، والقلب الصافي لا يمكن أن يحقد، ولذلك لما قدر عليهم سامحهم، والمتوقع الآن إنزال أقصى درجات العقوبة بهؤلاء، ولكنه لما قدر عليهم قال لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] هذه أخلاق الأنبياء.
فإذاً: عندما تتوالى دواعي الحقد في نفس الإنسان ويظلم من أقرب الناس إليه، ثم لا يحقد، معناها أنه صاحب دين وإيمان.
وسلامة الصدر يا عباد الله! مسألة عظيمة فضلها كبير، وإليكم بعض ما ورد من الأحاديث في مسألة سلامة الصدر: روى ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب) مخموم القلب: يقال: خممت الشيء إذا كنسته، وخممت البيت إذا كنسته، مخموم القلب أي أنه يزيل ما علق بقلبه أول بأول، مثلما تكنس البيت وتزيل ما به من النجاسات والقاذورات.
(كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد) حديث صحيح.
وفي رواية: (خير الناس ذو القلب المخموم الذي يَود ويُود، واللسان الصدوق، قيل وما هو؟ قال: التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن) أعلى الدرجات القلب المخموم الذي لا غل فيه ولا حسد.