قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) هذا شأن الحياء وهو شعبة من الإيمان، والله سبحانه وتعالى حيي ستير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه، أن يردهما صفراً خائبتين) والعبد عليه أن يتشبه بتلك الأفعال التي أمر الله العباد بأخذها، فعليه أن يستحي، هذا الحياء من الأشياء التي بقيت من النبوة الأولى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت) النبوات السابقة حصل لها تحريف وتغيير وتبديل، ولكن بقيت هناك عبارة صحيحة وصلت إلى هذه الأمة بدون تغيير ولا تبديل ولا تحريف، وهي: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) والمقصود تهديد ووعيد للذي لا يستحي، فليفعل ما يشاء، فالله سيجازيه، كما قال الله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] ستجدون هذه الأعمال يوم القيامة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] وكذلك هذا تهديد -أيضاً- من جهة أنه قال له: (إذا لم تستح فاصنع ما شئ) فإنه إذا سقط الحياء فالنتيجة أنه سيفعل ما يشاء، ويعاقبه الله بعد ذلك.
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاءُ
أنبياء الله كانوا يستحيون غاية الحياء، فهذا موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها هل تعرفون العذراء إذا كانت في جوف الليل التي ليس لها سابق عهد بالرجال ولا تختلط بالأجانب ولم يسبق لها زواج كيف يكون حياؤها؟ لو دخل عليها رجل أجنبي في مخدعها كيف يكون حياؤها؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها لو دخل عليها أجنبي.
وتجلى هذا في مواقف منه صلى الله عليه وسلم، فإنه لما صعد إلى ربه في حادثة المعراج المعروفة والمشهورة، فرض الله عليه خمسين صلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين موسى وبين ربه سائلاً التخفيف حتى وصلت إلى خمس صلوات، فقال موسى للنبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسلم).
كان النبي صلى الله عليه وسلم من حيائه أنه لا يصرح بالألفاظ التي فيها بشاعة أو شناعة، أو تخدش الحياء، أو تكرهها النفوس وتنفر منها، فكان يستخدم الكناية، وكان يعرض في كلامه، بل إنه صلى الله عليه وسلم في أحيان كثيرة كان لا يتكلم بكلمة، ولكن يعرف ذلك بوجهه من حيائه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الصحابي أبو سعيد رضي الله عنه: [فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه] يبدي ذلك صفحات وجهه، تنبئ عما يكرهه صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما جاءت امرأة تريد منه أن يعلمها كيف تغتسل فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (تأخذ فرصة من مسك فتتطهر بها) قطعة من القطن ونحو ذلك، فيها طيب من المسك وغيره تنظف بها مكان خروج الحيض لأجل الزوج وإزالة الرائحة، فقالت المرأة: كيف أتطهر بها -لم تفهم المقصود- قال: (تطهري بها، سبحان الله! واستتر بيده على وجهه صلى الله عليه وسلم) هنا تدخلت عائشة أم المؤمنين، قالت: (واجتذبتها وعرفت مراد النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: تتبعي بها أثر الدم) أثر الدم الموجود والباقي تتبعيه فأزيليه بهذه الفرصة الممسكة.
هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا نبينا الذي لما تزوج وجاء الناس إلى بيته وطعموا طعام الوليمة، أراد عليه الصلاة والسلام بعد ذلك أن يخلو بأهله، لكن هؤلاء لم يخرجوا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى البيت رجاء أن يكونوا قد خرجوا -من حيائه، ما قال لهم: اخرجوا- فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أو أُخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب -رجل داخلة وأخرى خارجة- أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب، فاستحى صلى الله عليه وسلم أن يطردهم أو يقول لهم: اخرجوا، هكذا كان عليه الصلاة والسلام، هذا هو النبي، وهذا هو الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء).
وبنته صلى الله عليه وسلم كانت تربيتها هكذا، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهب لها، وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: (إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك) وهكذا كانت الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن.
لما عرض النبي صلى الله عليه وسلم بيعته -بيعة النساء- تلا الآية عليهن وفيهن هند بنت عتبة، فأخذ عليهن العهد ألا يشركن بالله شيئاً كما في الآية، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولما بلغ: ولا يزنين وضعت يدها على رأسها حياءً، وفي رواية قالت: أَوَتزني الحرة؟ -عجيب أو تزني الحرة! هذا الزنا معروف عند الإماء- فنهرتها عائشة وطلبت منها أن تبايع، وقالت: هكذا بايعنا، بايعي على ما بايعنا عليه.