وكان أصحابه من بعده عليه الصلاة والسلام كذلك في زهدهم وتنازلهم عن الدنيا، ولذلك جاء أن عمر رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حوائجك، فقال: وصله الله ورحمه كما وصلنا، ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها كلها وانتهت، فرجع الغلام إلى عمر بن الخطاب فأخبره ووجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل ثم تله في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إلى معاذ فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في حاجتك فقال: وصله الله ورحمه، يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا وأهل بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ من البيت فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها، هذا حظ زوجة معاذ من زوجها، ديناران، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر، وقال: [إنهم إخوة بعضهم من بعض] رواه ابن المبارك في كتاب الزهد.
وحتى أغنياء الصحابة كانت لهم وقفات إذا جاءهم شيء من الدنيا، أتي عبد الرحمن بن عوف يوماً بطعام وكان صائماً فلما نظر إلى الطعام أمامه تذكر أشياء فماذا تذكر عبد الرحمن بن عوف؟ قال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني -يقولها تواضعاً- فلم يوجد ما يكفن به إلا بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا أو قال: ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، رواه البخاري.
هكذا كان الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من هذه الدنيا التي ذكرها الله ورسوله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شر الحياة الدنيا، وأن يجعلنا في هذه الحياة الدنيا من السعداء، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل حياتنا في هذه الدنيا عوناً على طاعته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.