سادساً: المحاسبة.
المحاسبة أمر مهم، والنفس اللوامة التي تلوم نفسها على ما يحصل منها من الأشياء، هذا أمر مهم في التخلص من الأخلاق السيئة واكتشافها الأخلاق السيئة، ولا بد أن يحاسب الإنسان نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، كما قال بعض السلف: والمحاسبة ليست مسألة جداول وأرقام كما يفعله بعض المبتدعة في محاسبة النفس، يأخذون جداول وفيها: هل فعلت كذا؟ وهل فعلت كذا؟ وفيها أرقام، ويجمع الأرقام وإذا حصلت على كذا فأنت بخير، وإذا ارتحت فأنت، هذه ليست طريقة السلف في المحاسبة، وليس هو التطبيق الصحيح لقول الله عز وجل: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].
التعود على محاسبة النفس على المواقف والأخطاء، إذا وقعت في خطأ فتعزم على التصحيح في المستقبل وتستفيد من هذا الخطأ للمستقبل، ولنأخذ لكم مثالاً جيداً: ابن حزم رحمه الله له كتاب جيد، كتاب مختصر ولكن فيه فوائد كثيرة، اسمه: الأخلاق والسير في مداواة النفوس، وهو ليس شيئاً كاملاً لا يمكن أن يوجد فيه ثغرات، لكنه كتاب مفيد وفيه تأملات عميقة، كتاب الأخلاق والسير، الآن نأخذ مثالاً: كيف تكون المحاسبة؟ يضرب مثلاً يقول: العجب خلق سيئ، فكيف تحاسب نفسك محاسبة تخلصك من العجب؟ -اسمع معي ماذا يقول! - يقول: من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفت عليه عيوبه جملة -لم ير عيباً فيه- حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً، وضعيف العقل؛ لأن العاقل هو من ميز عيوبه بنفسه فغلبها وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، قال: واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء، فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط.
-لا يمكن أن يوجد فينا نحن المجتمعين هنا شخص لا عيب فيه، هذا مستحيل- وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة، يعني: لو أنت فكرت في استماعك لعيوب الناس ما فائدته؟ لا يمكن أن تجد إلا فائدة واحدة، وهي الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته.
ثم يقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، لأنك إذا تفطنت في العيوب وظهرت لك أمامك في لائحة العيوب، فكيف ستعجب بنفسك وقد ظهرت أمام عينيك لائحة عيوبك، ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منك، هذه مسألة مهمة، أي: لا تقل: هناك أناس أسوء مني وأتعس مني، وأكثر عيوباً مني، يقول: إذا فعلت ذلك فسوف تستسهل الرذائل، وتكون مقلداً لأهل الشر.
ثم يقول: فإن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذٍ، ولو كان عقلك كاملاً لما جاءت فيه هذه الخواطر السيئة، وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنساها.
كل إنسان معه سقطة أو سقطات، وأخطأ أخطاء شنيعة، فكر في هذه الحالات فيزول إعجابك بنفسك فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابك، فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك، وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم، وإن أعجبت بعملك إذا صار الإعجاب من جهة العمل، فتفكر في معاصيك.
افرض أنك مثلاً شاهدت إنساناً ملهوفاً محتاجاً يستغيث فأعنته، فقدمت له خدمة عظيمة جداً وقام على رجليه، فقد يدخل في نفسك عجب بالعمل، تقول: أنا اليوم لو مت على هذا العمل فأنا من أهل الجنة، قد يأتي في بالك عجب بالعمل، فماذا تفعل؟ يقول: تفكر في معاصيك وفي تقصيرك، وفي معاشك ووجوهه، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك، ويغطي على حسناتك، فليكن همك حينئذ، وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك.
وإن أعجبت بعلمك، فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، فكيف تزيل العجب بالعلم؟ أن تعتقد أنه موهبة من الله وهبك إياها ربك، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء، واعتدال الأحوال وصحة البحث، أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج لاستعادته، يحفظ من مرة واحدة، وقيل: إنه ركب البحر فمر به هول شديد في البحر، أنساه أكثر ما كان يحفظ، وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً.
يقول ابن حزم: وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له، فما عاودته إلا بعد أعوام، أي: ما استرجعت المحفوظات هذه بعد هذا الهم وهذه الكربة أو العلة إلا بعد أعوام.
والذي يعجب بعلمه -أيضاً لإذهاب العجب من نفسه- فعليك أن تعلم أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلوم أكثر بكثير مما تعلم، فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم منه، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى.
وسيلة أخرى: تفكر فيمن كان أعلم منك، تجدهم كثيرين، وشيء آخر: كم علمت من العلم الذي عندك، لو صار عندك عجب، فكر كم في المائة من العلم الذي تعلمته نفذته وطبقته، فيسقط عجبك بالكلية.
وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك، ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله إياها فيما صرفتها؟ فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها، وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدته بالعجب، فصرت الآن بين النارين، ثم تأمل هذه الشجاعة كيف ستزول عنك إذا بلغت من الكبر عتيا، وصرت من عداد العيال والصبيان في الضعف.
وإن أعجبت بجاهك ومنصبك ومكانتك في الشركة والمؤسسة -مثلاً- فتأمل في مخالفيك وأندادك ونظرائك من الناس الذين لهم وجاهات، وتأمل في خستهم وما وصلت بهم وجاهاتهم من معصية الله عز وجل؟ ولذلك لما جلس ابن السماك رحمه الله يعظ الرشيد مرة دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه - الرشيد - فقال له: يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها؟ -كم تعطي من ملكك لتبتاع الشربة؟ - فقال الرشيد: بملكي كله -أي: أموت إذا لم أشرب- قال: يا أمير المؤمنين! فلو منعت خروجها منك -أي: أنه صار عندك حصر بول- بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله، قال: يا أمير المؤمنين! أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء، فعلمه التواضع وعدم العجب بالخلافة والملك.
وإذا فكر الإنسان في نفسه وطبائعه وتولد الأخلاق، فإنه سوف يقف على يقين بأن الفضائل هي ما منحه الله للإنسان، وأنه لولا الله لعجز وهلك، ويسأل الله ألا يكله إلى نفسه طرفة عين، يقول: قد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض والفقر والخوف والغضب والهرم، فأنت الآن تلاحظ أن كبار السن يصير عندهم نوع غضب أكثر، وحدة أكثر، وتراه يثور لأتفه الأسباب، تأمل إذاً نعمة الله عليك، يقول: لقد أصابتني علة شديدة وتولدت علي ربواً شديداً في الطحال، وولد علي ذلك من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر أمراً حاسبت نفسي فيه، إذ أنكرت تبدل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن هذا المرض يولد من هذه المفاسد أشياء كثيرة.
فإذاً: الإنسان بالتأمل والمحاسبة، ومناقشة النفس، يمكن أن يزيل أخلاقاً سيئة من نفسه.