أما عمر رضي الله تعالى عنه: فإنه رجلٌ أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، وهو رجل ملهم محدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (في أمتي ناسٌ محدثون، منهم عمر) محدث ينطق بالحق، وما يظنه عمر يكون حقاً في الغالب وصحيحاً، هذه فراسة إيمانية يلقيها الله في قلب من يشاء من عباده، ودخل عليه قومٌ من مذحج فيهم الأشتر فصعّد عمر فيه النظر وصوبه، وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث، قال: ماله قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيبة، وبعد عمر حصل من الأشتر فتنة عظيمة على المسلمين فعلاً، عرف عمر ذلك من وجه الأشتر.
ودخل المدينة وفدٌ من اليمن وكان عمر مع الصحابة في المسجد، فأشاروا إلى رجلٍ من الوفد، وقالوا لـ عمر: هل تعرف هذا؟ قال: لعله سواد بن قارب، فكان كذلك، يسمع به ولم يره، لكن لما رأى وجهه بالفراسة عرف أن هذا هو فعلاً فكان كذلك.
وكان عمر رضي الله عنه يطوف في البيت، فسمع امرأةً تنشد في الطواف قائلة:
فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبردٍ نقاخٍ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهن من تسقى بأخضرَ آجن أجاجٍ ولولا خشية الله رنت
من النساء من تشرب عذباً زلالاً، ومن النساء من تشرب أخضر أجاجاً معفناً، ريحه سيئة، فتفرس عمر رضي الله عنه ما تشكوه، ما هو مدلول كلامها؟ فبعث إلى زوجها فاستنكهه -أي: شم رائحة فيه- فإذا هو أبخر الفم، وبخر الفم مرض: عبارة عن رائحة في الفم كريهة مستمرة تكون في أفواه بعض الناس، لا يكاد يوجد لها علاج؛ لأنها شيء ذاتي جعلها العلماء من العيوب في الرجل التي تبيح للمرأة طلب الطلاق إذا لم تتحملها، كما يباح للمرأة مثلاً طلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً لا ينجب، هناك عيوب يجوز للمرأة بها طلب الطلاق، هذه جاءت تشكو إلى عمر، وتقول:
فمنهن من تسقى بعذبٍ مبردٍ نقاخ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهنّ من تسقى بأخضر آجنٍ أجاجٍ ولولا خشية الله رنت
فلما أتى به عمر واستنكهه عرف القضية أنه أبخر الفم، فأعطاه خمسمائة درهم وجارية على أن يطلقها ففعل.