لا بد لنا من رجعة إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف عاشوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا، وكيف كانوا وصاروا بعد أن فتحت عليهم الدنيا.
إن الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً منهم قد أدرك الحالين: حال الفقر وحال الغنى، فكيف كان حالهم في وقت الفقر وكيف صار حالهم في وقت الغنى، هل تغيرت نفوسهم؟ هل اضطربت أحوالهم؟ هل رجعوا وارتدوا على أعقابهم؟ كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الفتوحات حالاً شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة مالي ولـ بلال من طعام -ليس لي ولـ بلال طعام- إلا شيء يواريه إبط بلال)، قالت عائشة: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض) ما شبعوا من طعام البر ثلاث ليالٍ متوالية، ما مر عليهم، وقالت: (ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر) وقالت: (كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً إنما هو التمر والماء، إلا أن نأتي باللحيم -واللحيم تصغير لحم- من الجيران أو الصحابة الذين يهدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم) قالت لابن أختها عروة: (يا بن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار)، قال قتادة: (كنا عند أنس وعنده خباز له بعد ذلك، قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله).
كان أهل الصفة فقراء، ليس لهم مأوى فينامون في المسجد، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإضافتهم ويأخذ معه بعضاً منهم إلى بيته، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أهله فيقول: (عندكم طعام؟ فيقولون: لا.
فيقول: إني إذاً صائم).
ولما أراد الصحابي أن يتزوج لم يجد مهراً ولا خاتماً من حديد، ليس له إلا إزاره يواري به عورته، لو أعطاه للمرأة لم يغنِ عنها شيئاً وبقي هو بغير ثياب.
عن عائشة قالت: (دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل -محتاجة ومسكينة- فلم تجد شيئاً عندي غير تمرة) -يا أيها المسلمون! اتعظوا! بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إلا تمرة- فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته فقال: من ابتلي بهذه البنات بشيء كن له ستراً من النار) فقم بتربيتهن -يا أبا البنات- واحفظهن يحفظك الله في الدنيا والآخرة.
كان الصحابة يقدم عليهم إخوانهم من سائر النواحي فقراء مطاردين مشردين، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين والأنصار! إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة) هذا شيء يسير جداً من حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما شبعوا من التمر إلا بعد معركة خيبر، أما غير ذلك فلم يكونوا يرون الطعام إلا يسيراً، وكانت خفافهم مشققة وثيابهم مرقعة رضوان الله عليهم، يجاهدون في سبيل الله ولو لم يجدوا في طريق الجهاد إلا ورق الشجر.