طلب سفيان العلم وهو حدثٌ باعتناء والده المحدث الصادق، وأمه كان لها أثر حسن في توجيهه، قالت أم سفيان لـ سفيان: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.
كانت تعمل بالغزل وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلم وقالت له مرة: يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك! من هذا البيت خرج هذا الرجل، فالتربية التربية يا عباد الله! فإن النشء يخرج هكذا.
أفنى عمره في طلب العلم وطلب الحديث، وقال رحمه الله: لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب! لا بد لي من معيشة، ورأيت العلم يُدرس -أي: يذهب ويندثر تدريجياً- فقلت: أفرغ نفسي في طلبه، قال: وسألت الله الكفاية.
وقال: أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة.
وقال: ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه.
وكان -رحمه الله- يقول: لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا.
وقال: لو لم يأتني أصحاب الحديث ليسمعوا ويكتبوا لأتيتهم في بيوتهم.
وبلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ، وعن المبارك بن سعيد قال: رأيت عاصم بن أبي النجود -وكان شيخاً جليلاً- يجيء إلى سفيان الثوري يستفتيه، ويقول: يا سفيان! أتيتنا صغيراً وأتيناك كبيراً.
أي: أتيتنا صغيراً تطلب العلم عندنا فتفوقت علينا فجئناك وأنت كبير وكان يكتب ويتعلم حتى آخر عمره يشتغل بطلب العلم.
دخلوا على سفيان في مرض موته، فحدثه رجل بحديث أعجبه، فضرب سفيان بيده إلى تحت فراشه فأخرج ألواحاً فكتبه -كتب الحديث وهو على فراش الموت- فقالوا له: على هذه الحال منك! فقال: إنه حسن! إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً.
رحل إلى مكة والمدينة، وحج ولم يخط وجهه بعد، وزار بيت المقدس، ورحل إلى اليمن للقاء معمر، وكانت أسفاره ما بين طلب علم وتجارة وهرب كان نابغة بحق.
عن الوليد بن مسلم قال: رأيت سفيان الثوري بـ مكة يستفتى ولم يخط وجهه بعد.
وعن أبي المثنى قال: سمعت الناس بـ مرو يقولون: قد جاء الثوري قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه.
أي: نبت شعره من قريب، كان ينوه بذكره في صغره من فرط ذكائه وقوة حفظه.
وقال محمد بن عبيد الطنافسي: لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي، أذكره منذ سبعين سنة، ونحن في الكتاب تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان يستفتونه ويفتيهم، ولما رآه أبو إسحاق السبيعي مقبلاً في صغره تمثل بقول الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12].