سلامة الصدر وأهميته

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا مضل له، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: عباد الله! إن هذه الشريعة جاءت فيما جاءت به إصلاح ذات البين، لأجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن، وأمر الله تعالى بإصلاح ذات البين لأجل حفظ سلامة الصدور، فقال الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وجاءت الشريعة بكل الأمور التي تكفل سلامة صدر المسلم لأخيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) كل هذه الإجراءات لسلامة لصدور، سلامة الصدر مطلب شرعي، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا ذل ولا حسد) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح.

عباد الله: لقد كثر اليوم في الناس الشحناء، وصارت الأحقاد في القلوب كثيرة، لقد صرنا نجد تقطع العلاقات، وحمل الناس في قلوب بعضهم على بعض، مع أن هذه الشريعة قد جاءت فيما جاءت به تصفية القلوب والنفوس ومراعاة المشاعر، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] علم الله تعالى أن بعض الناس إذا استأذن فلم يؤذن له وقيل له: ارجع، أنه قد يجد في نفسه على أخيه صاحب البيت، فقال الله معزياً ومسلياً حتى يرجع المؤمن ونفسه راضية عن أخيه المؤمن قال: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] فسلاه وعزاه بالتزكية التي تحصل له في قلبه إذا رجع لما يقال له ارجع، ولذلك كان بعض السلف يفرح إذا قيل له: ارجع، ولم يؤذن له بالدخول؛ لأنه يريد موعود الله بحصول التزكية التي وعد الله {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].

وسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] فأهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً، كما جاء في صحيح البخاري رحمه الله.

سلامة القلب: طهارته من الحقد والغل للمسلم، وهذه راحة ونعمة، ولذلك أكدت عليها الشريعة حتى يعيش الناس في بحبوحة من أمرهم، وفي سلامة وعافية، فإن سلامة صدر المسلم لأخيه من أعظم الأسباب لتحقيق ذلك، وهذه مسألة صعبة ولا شك، فإن الإنسان قد يحسن مكابدة الليل وقيام ساعاته، ولكنه قد لا يستطيع أن يزيل من قلبه كل شيء فيه على إخوانه، وقد وصف العلماء رحمهم الله أخلاق طالب العلم فقالوا: لا مداهن، ولا مشاحن، ولا مختال، ولا حسود، ولا حقود، ولا سفيه، ولا جاف، ولا فظ، ولا غليظ، ولا طعان، ولا لعان، ولا مغتاب، ولا سباب، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه، ونهاه عما يكرهه مولاه، ويخالط بالجميل من لا يأمن شره إبقاءً على دينه، سليم القلب للعباد من الغل والحسد، يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر، لا يحب زوال النعم على أحدٍ من العباد، هذا دأب طالب العلم والداعية إلى الله والمتمسك بالدين، هذا حاله وهذا خلقه، لقد أثنى الله على الأنصار لأمر مهمٍ في غاية الأهمية قال الله عز وجل: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9].

لما فضل المهاجرون على الأنصار كانت قلوب الأنصار سليمة لإخوانهم، ولم يعترضوا على تفضيلهم ولم يحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله، وإنما كانت الأنصار كما قال الله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون من الفضل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] لو كان بهم حاجة مع ذلك يؤثرون على أنفسهم.

إن مما يدل على صعوبة تحقيق سلامة الصدر هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام أحمد وغيره: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يدخل عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم تبعه -أي تبع الرجل الممدوح- عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال للرجل: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي -أي: هذه الأيام الثلاث- فعلت، قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا عداء، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق) حديث صحيح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015