ومن الأسباب كذلك: عدم التخلص من شوائب الجاهلية وآثارها عند الاستقامة؛ فقد يكون للشخص المستقيم الذي يتظاهر الآن بالاستقامة علاقات ما زالت مع بعض أهل الشهوات لم يتب منها ولم يقطعها، وربما خفف منها في البداية أو توقف عنها، لكنه لا يزال يحن ويعاوده الشوق إلى ممارسة تلك العلاقات مرة بعد مرة حتى يسقط فعلاً، فهو عند دخوله في طريق الاستقامة لم يكره الشر، ولم يسخط على الإثم، ولم يخلع على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية؛ فتعاوده تلك العلاقات بمبادرةٍ منه، أو بمبادرة من صاحب العلاقة الآخر الآثم، يتصل به ويزين له الشر ويدعوه مرة أخرى، وهنا قد لا يصمد وينتكس ويسقط في هاوية الفاحشة.
والحديث الصحيح الوارد في قصة الصحابي الذي كان بعد إسلامه يهرب المسلمين من مكة إلى المدينة، يذهب إلى مكة ويدخل خفية ويحمل بعض الضعفاء المسلمين الذين لا يستطيعون الهجرة بمفردهم، هذا الرجل كان على علاقة بامرأة في الجاهلية قبل أن يسلم، ولما دخل مكة سراً ليحمل بعض المسلمين ويهاجر بهم إذا بالمرأة التي كانت على علاقة معه تراه، فلما رأته هشت له وبشت، ودعته إلى ما كان منهما من الوصال المحرم في الماضي، ولكن هذا الصحابي الذي عصم الله قلبه بالإيمان لم يستجب لدعوة تلك المرأة، بل رفض العرض، فهددته أن تصرخ بكفار قريش ليأتوا به فيأخذوه، وقد يقتلوه فرفض، فصرخت تنفيذاً للتهديد الذي هددته به، فاجتمع كفار قريش فهرب ذلك المسلم فدخل مغارة، فدخلوا يبحثون عنه، يقول: فأعمى الله أبصارهم فلم يروني؛ جزاء الاستقامة، ثم خرجوا فخرج هو وعاد إلى المدينة {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر:61] {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
فقد تعاود الشخص المستقيم أشياء من الماضي لا بد أن يقف لها بالمرصاد؛ وإلا فإن السقوط سيكون عاقبة طبيعية لاستجابته للمحرمات.
ويدخل في ذلك عدم قطع الصلة بالرفقة من أصحاب السوء القدامى، فهو لا يزال يجلس مع هؤلاء ومع هؤلاء، لا يزال يجالس أصحاب السوء الذين كان على علاقة بهم، ولا يزال يجالس -أيضاً- أصحاب الاستقامة الذين تعرف عليهم الآن، فهو كالشاة العائرة بين الغنمين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يلبث أن يغلب جانب الشر في نفسه، ولا يجتمع في قلب عبد محبة الله ومحبة الشيطان، وكما يقول ابن القيم رحمه الله:
حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان
كيف يجلس مع هؤلاء فيسمع آيات التنزيل، ويسمع أحكام الله وأوامره، ويسمع الرقائق والمواعظ، ثم يجلس مع أولئك الناس الآخرين فيسمع الغناء والموسيقى والطرب ويلعب الورق كيف يجتمعان؟ فلا بد أن يكون عاقبة هذا السقوط عاجلاً أم آجلاً.
ولذلك كان لا بد من هجر أهل السوء بالكلية عند الدخول في طريق الاستقامة، ومن شواهدنا على هذا: حديث قاتل المائة نفس الذي ورد في الصحيح، هذا الرجل الذي قتل مائة نفس عندما ذهب إلى عالم فسأله: هل لي من توبة؟ قال: نعم، وما الذي يحول بينك وبين التوبة؟ ماذا قال له العالم؟ اذهب إلى القرية الفلانية فإن فيها أناس صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم، قال له: لا تبقى هنا؛ لأن الناس الذين يشجعونك على الشر يوجدون هنا؛ ولذلك فإن بعض العلماء قد عدوا من شروط التوبة: مفارقة مكان المنكر.
وهذه الأمور -أيها الإخوة- التي سردناها آنفاً تؤكد أهمية التربية وتهذيب النفس وتخليصها من كل شوائب الجاهلية، وأهمية التربية الإسلامية المركزة لا التربية القطيعية.
وستبقى المعضلة عند المخلصين: الموازنة بين التربية الإسلامية المركزة وبين استقبال الجموع الوافدة بسلبياتها وإيجابياتها إلى الأوساط الإسلامية واستيعابها وفتح الباب أمامها على مصراعيه.