وإذا جلسنا ندقق في أسباب النكوص والانتكاس في هذا القسم الذي نتحدث عنه فسنجدها كثيرة جداً، فبعضهم يدخل طريق الاستقامة من باب الارتياح العاطفي، والتعلق بالشخص الداعية الذي دعاه إلى الله، ويتقبل الأحكام الشرعية ويطبقها؛ لأنها خرجت من فلان الفلاني الذي يرتاح لشخصه لا لأنها أحكام الله التي قضى بها، إنه يطبق هذه الأحكام ويلتزم بها؛ لأنه يحب الشخص الذي دعاه إلى تطبيق هذه الأحكام، لا لأنه يحب الله الذي فرض هذه الأحكام، فيصبح هذا الداعية وسيطاً بينه وبين الله، فإذا ابتعد هذا الداعية أو سافر مثلاً أو حدث بينهما إشكال أو خلاف انقلب على عقبيه؛ لأن الذي كان يربطه بطريق الاستقامة قد ذهب، وهذا يؤكد -أيها الإخوة- التربية على الصلة بالله لا بالأشخاص، والارتباط بالله لا بالعواطف، قد يكون للمرأة أو للرجل من يسانده في الاستقامة من أهله داخل البيت أو خارجه، واحد يؤازره ويشد عضده، فلسببٍ من الأسباب يتخلى هذا المساند عن مساندته؛ إما لسفر، أو لابتعاد، أو لتغير قناعاته، فيحدث التزلزل والانتكاس! مرة أخرى: تعلق القلب ليس بالله، وطلب العون ليس من الله، هذا عنده مثل هذه النوعية من الأشخاص، وهذا ركن واهن لا بد أن يغير إلى ركن شديد، (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، ولذلك نعى الله في القرآن على الذين يرتبطون بشخصية في التزامهم واستقامتهم ولا يرتبطون بالله، حتى لو كانت هذه الشخصية هي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين يلتزمون فقط لأن الرسول صلى الله عليه وسلم موجود بين أظهرهم هم أناس ما فقهوا حقيقة الاستقامة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] هذه حقيقة مهمة ينبه عليها القرآن: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] سوف يموت كما مات أي رسول، أو يقتل كما قتل أي رسول {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
سبحان الله العظيم! كأن هذه الآية نزلت في المرتدين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما قرأها الصحابة كأنهم لأول مرة يقرءوها، ولما قام عمر يتكلم، ويقول: [إن محمداً ذهب إلى ربه كما ذهب عيسى، وليوشكن أن يرجع فيقطع رقاب أناس من المنافقين.
قال أبو بكر: اقعد يا عمر! فلم يقعد، فقام أبو بكر يتكلم فتحول الناس إليه، فتلا عليهم هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
إذاً: الدعوة إلى الله والاستقامة على منهج الله ليست مرتبطة بأشخاص، إذا زال هؤلاء الأشخاص زالت الاستقامة، وإذا ابتعدوا ابتعد الإنسان عن الاستقامة! كلا.
وكثير من الناس اليوم ارتباطهم بالدين هو عبارة عن ارتباط بأشخاص لو زال هؤلاء الأشخاص لزال الارتباط بالدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد يستغرب البعض وجود الارتياح العاطفي الشخصي بين فاسق وداع إلى الله يدعوه، ولكن الحقيقة -أيها الإخوة- أن هذا الأمر طبيعي في وسط الجاهلية التي أفرغت قلوب الناس من محبة الله وذكره، فيمكن أن تجد كل عاطفة سلبية مكانها في تلك القلوب الخاوية، وتنشأ العلاقات ويحصل التأثر ليس لله وإنما لأجل الشخص الناصح، فيلتزم لوجه الناصح لا لوجه الله.