المجاهدة والصبر وعدم الانشغال بالمؤثرات الخارجية

هذه المسألة أكبر حلٍ لها هو المجاهدة، مجاهدة النفس عند قدوم الخواطر الطارئة، وعندما يقفز النظر بين السطور وينهي الصفحة والصفحتين، وإذا توقفت فجأة وجدت نفسك لم تستوعب شيئاً، لا بد أن تراجع طريقتك في القراءة، التجاوب مع القراءة من أكبر الأسباب التي تؤدي للتركيز، ولذلك -مثلاً- إذا نظرت إلى قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن وجدت فيها أمراً عجيباً، فمثلاً: كان إذا مر بآية تسبيح سبح، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، وإذا مر بآية نعيم سأل الله، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40].

قال: بلى، إذا مر بآية فيها سجدة سجد، ما معنى هذا؟ التفاعل مع القراءة، التفكر في الأشياء التي تقرأ، بعض الناس إذا نظرت إليه وهو يقرأ تجد في قسمات وجهه أنه أحياناً يعبس، وأحياناً تجده ينبسط، وأحياناً تجده يبتسم، وأحياناً تجده مستغرباً، وأحياناً تجده مندهشاً، وأحياناً تكون أنت جالساً في حجرة شخص يقرأ في سكون وفجأة تسمعه يقهقه، ماذا حصل؟ قرأ شيئاً مضحكاً، فهذه العلامات على الوجه أثناء القراءة تدل على أن الشخص متابع لما يقرأ، التركيز لا يأتي من أول وهلة، ولا يأتي بسهولة جداً لا بد له من تمرن مستمر، وصبر وعدم استجابة للمؤثرات الخارجية، وإذا استطاع القارئ بالمجاهدة أن يرد عقله مرة بعد أخرى إلى الموضوع فإن الخواطر الطارئة لا تلبث أن تعود من حيث أتت وبتكرار ذلك يصبح تركيز الذهن من الأمور المألوفة، فالقضية قضية صبر ومجاهدة.

العين -أيها الإخوة- ترى رسم الحروف لكن لا تفهمك معنى الكلام، وإنما القلب هو الذي يفهمك المعنى، وعن طريق التدبر تلتذ القراءة، هناك أمر وهو: إذا لاحظنا القراء الآن نجد أنهم يختلفون، فمنهم قارئ سماعي، لا يقرأ إلا برفع الصوت، يوجد أناس لا يعرف يقرأ أبداً ولا يفهم ولا يستوعب إلا إذا رفع صوته، ولذلك يصير مزعجاً بالنسبة لشخص آخر.

هناك قارئ آلي، يحرك شفتيه لكن بدون صوت، تجده يقرأ بالشفتين، وهناك قارئ بصري لا يقول شيئاً ولا يسمع شيئاً، لكن فقط ينظر ويفكر، لا تسمع صوتاً ولا ترى حركة، وإنما يتابع ببصره وقلبه، بعض الناس المفكرين يقولون: إن الأخير هو أجود الأنواع لأنه يركز تركيزاً شديداً جداً، بحيث أنه لا يحتاج إلى أشياء أخرى تنبهه وتجعله يعيش داخل الموضوع، ولكن الناس يتفاوتون، وممكن شخص لا يستوعب إلا برفع الصوت، وممكن شخص لا يستوعب إلا بتحريك الشفتين، وممكن شخص لا يركز إلا بالنظر مع استعمال الفكر والقلب، فالناس يتفاوتون، كل واحد يرتاح بطريقة معينة.

وكذلك الأشياء نفسها المقروءة تختلف فمثلاً: ذكر بعض أهل العلم قال: ينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يسمع نفسه فإن ما سمعته الأذن رسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه منه لما يقرؤه، وإذا كان المدروس مما يفسح طريق الفصاحة يكون رفع الصوت به مهماً، مثل قراءة الشعر، قراءة الأشياء التي تحسن الأسلوب، التي تحسن النطق، التي تجلب الفصاحة، هذه رفع الصوت بها مهم، ويقول أحد أهل العلم وحكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لكنة أهل جلدته فقال: كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتاب الجاحظ -والجاحظ من المعتزلة ضال في العقيدة، لكن له كتب جيدة في أسلوب الفصاحة، مثل كتاب البيان والتبيين - فأرفع بها صوتي فما مر بي إلا زمان قصير حتى صرت إلى ما ترى، لذلك رفع الصوت كأن يسمع القارئ نفسه القرآن من الأمور التي تجعله فصيحاً جداً.

أيها الإخوة: من الأمور السيئة أنه وجد مطرب مغني ينصح الشباب الذين يريدون الإقبال على الغناء، فيقول لهم: وصية: أنصحكم بدراسة التجويد، لأنه يساعدكم على أداء الأغنية بكفاءة عالية، فالتجويد فيه علم مخارج الحروف، والتفخيم والترقيق، أي أشياء كثيرة، لكن انظر السفيه يريد أن يستغل التجويد في الغناء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015