فشهر رجب شهرٌ محرم، الذنب فيه أضعاف، وأكثر وأسوأ من الذنب في غيره من الأشهر غير الحرم، ولا شك أن الذنوب تعظم في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة، والناس عددٌ منهم بدلاً من أن يمسكوا عن ظلم أنفسهم في رجب، فإنهم يظلمون أنفسهم بأشد أنواع الظلم، أو من أشدها وهي البدعة التي هي أشد ذنبٍ بعد الشرك بالله، فيحولون شهر رجب إلى شهر بدعة، فيجعلون فيه صلاة الرغائب التي هي أول ليلة جمعة من شهر رجب، فيصلونها على كيفيةٍ معينة وهي بدعةٌ عند العلماء، ويجعلونه صياماً، والإكثار من الصيام إنما يكون في شعبان والمحرم، والشهر الوحيد الذي يصام كله هو رمضان، ويعتقدون أن عمرة رجب أفضل من غيرها، والمفروض أن الإنسان يعتمر في أي وقتٍ يتيسر له، والعمرة في رمضان تعدل حجة، فاعتمر في رجب أو في غير رجب دون اعتقادٍ لفضلٍ معين، وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات كلهن في ذي القعدة، وبذلك أثبتت عائشة وسكت ابن عمر، ويحتفلون ببدعة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين منه؛ علماً بأن الإسراء والمعراج لم يثبت أصلاً أنه في السابع والعشرين من رجب فضلاً عن الاحتفال به.
ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله مقعداً هذه القاعدة العظيمة: الزمان ثلاثة أنواع: أولاً: يوماً لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يكن له ذكرٌ في السلف، ولم تحدث فيه حادثة معينة.
فتعظيمه وتخصيصه بعبادة أو زينة أو احتفال بدعةٌ شنيعة، كأول خميس من رجب ليلة الجمعة التي يصلون فيها صلاةً يسمونها صلاة الرغائب، ويومٌ في وسط رجب فيه صلاة يزعمون أنها صلاة أم داود، وكل ذلك بدعةٌ منكرة، وتخصيص بعض الأيام بصيام وليلها بقيام من بين سائر الليالي والأيام لا يكون ذلك، فينبغي أن يصام منه كأي شهرٍ آخر، مثل أيام البيض والإثنين والخميس، أو صيام يوم وإفطار يوم ونحو ذلك.
ثانياً: ما جرت فيه حادثة معينة لم تجر في غيره، ولكن هذا الجريان لهذه الحادثة لا يوجب أن تجعل موسماً، ولا تجعل عيداً ولا تُعظم، كخطبة النبي صلى الله عليه وسلم في غدير خم، أو المولد، فيوم المولد حدث فيه حدثٌ معين، وهو ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا اليوم ولا الحدث يوجب أن نحتفل به أو نخصصه بعبادةٍ معينة من بين سائر أيام العام، وقد حدث للنبي صلى الله عليه وسلم خطبٌ وعهودٌ ووقائع ومعارك في أيام كثيرة لم يحتفل بها الصحابة، ولم يخصصوها بعبادةٍ معينة.
ثالثاً: ما هو معظمٌ في الشريعة، كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وليلة الجمعة ويومها، والعشر الأُول من محرم، ونحو ذلك، فهذه يقتصر فيها على ما فعله السلف، ولا يحدث فيه أشياء جديدة، وإنما يقتصر على ما ورد عن السلف من الاجتهاد فيها بالعبادة، طول القيام، الصيام، فيما ورد فيه ذلك، والحمد لله.
وهكذا تكونون أمةً وسطاً، لا إفراط ولا تفريط ولا غلو، وإنما العبادة وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف من بعدهم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بالملة الحنيفية، وأن يجعلنا من المستقيمين على السنة النبوية، وأن يجعلنا من العاملين بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الشريعة السمحة.
اللهم اغفر لمن مات من المسلمين من الموحدين يا رب العالمين، اللهم ارحم موتى المسلمين الذين ماتوا في هذه المصيبة، اللهم خفف عن المصابين مصابهم، اللهم واشف مرضى المسلمين مما أصابهم، اللهم إنَّا نسألك أن تجعل ما أصاب الموحدين من المسلمين كفارةً ورفعةً لهم في الدنيا والآخرة يا رب العلمين.
اللهم آمنا في البلاد، وأرشد الأئمة ولاة أمور العباد، وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله الجليل العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.