ملمح آخر من الملامح التي نعيشها في هذه الفترة معركتنا مع العلمانية.
العلمانية: هي مذهب فكري إلحادي يرمي إلى نزع الدين من حياة المسلمين، وعزل الدين عن حياة المسلمين، وجعل الدين في جهة وحياة المسلمين في جهة أخرى، إنهم يريدون منا باختصار أن نقول: ما شأن الدين في الاقتصاد، وفي الأمور الاجتماعية، وفي الأمور السياسية، وفي العادات والتقاليد إلخ.
يريدون أن يقدموا لنا الإسلام في قالب معين، أن الدين في المسجد، وأنه مقصور على شعائر معينة، وقد تكون المسألة في عقد النكاح والطلاق ونحو ذلك، يقدمون لنا الدين في قوالب معينة، يريدون حصر الدين في زوايا، ونشر الإلحاد والتمرد على شريعة الله في بقية الأنحاء والأجزاء من جسد الأمة الإسلامية وواقعها، فنحن الآن معركتنا الأساسية مع هؤلاء، ورحم الله مسلماً عرف عدوه، ومعرفة العدو جزء مهم من القضية، ومعرفة مخططات هؤلاء الناس شيء آخر مهم جداً.
أقول لكم قصة الرجل الذي ذهب إلى جامعة من الجامعات في إحدى بلدان العالم الإسلامي، فوجد فيها تيارات علمانية، وغزو فكري مركز وموجود ومسيطر، قد عشعش في هذا المكان، ثم العجب أنه يرجع من هناك ليقول: إنهم أشخاص سوء، إنهم يدخنون! فلا يصلح أن نكون بالسطحية التي لا نرى فيها منكراً أعظم من التدخين.
لابد أن نضع نصب أعيننا، أن أعظم المنكرات هو تنحية الشريعة عن التطبيق في الواقع، من الألف إلى الياء.
والمهمة الواجبة على المسلم هي معرفة أفعالهم في الماضي والحاضر، ومعرفة خططهم المستقبلية وشخصياتهم حتى الأسماء، وقنواتهم التي يصبون فيها سمومهم والوعي بكتاباتهم، والزوايا التي يسطرون فيها أفكارهم، لابد أن نقرأ قراءة نقدية بخلفية شرعية، فنعرف أن هذا خطأ ومخالف للإسلام، على ضوء الخلفية الشرعية التي يجب أن تكون موجودة لدى الفرد المسلم، وإلا فإننا سنكون سذج، إما أن ننقد شيئاً لا يستاهل النقد، أو أن نغفل عن أشياء مهمة جداً في الصميم يُطعن فيها الإسلام، لا يمكن أن نترك المجتمع نهباً للعلمانيين، ويجب أن يبرز من شباب الإسلام قدوات وقادة في المجتمع، ليقطعوا الطريق على قيادات العلمانيين، فإن الجماهير لابد لها من شخصيات تعجب بها، ولابد لها من قادة ميدانيين في المجتمع.
فإذا تخاذل شباب الإسلام عن البروز بتميزهم العقدي والمظهري والعبادي والأخلاقي، إذا تخلف شباب الإسلام عن الظهور في المجتمع كقدوات مؤثرة، وكقادة لجماهير الأمة، فإن أهل العلمنة هم الذين سيتبوءون الأمكنة ويقودون الناس، كما فعلوا في الماضي.
فنقول: لابد أن تنهضوا أنتم يا شباب الإسلام! ويا كهول الإسلام! ويا صغار المسلمين! كل بحسب قدرته وطاقته أن يبرز في المجتمع المدرس في مدرسته، والمدير في دائرته، والمهندس في إدارته، والشيخ والعالم والواعظ والخطيب، لابد أن يبرز كل واحد بما عنده من الدين.
أنت إذا برزت اجتمع حولك الناس، وأخذوا ما لديك بأسلوبك الحسن، ولكن إذا تقوقعت أتحت المجال لأهل السوء أن يبرزوا، وكلما خفت صوت إسلامي، ارتفع صوت النفاق، وكلما توارى قلم إسلامي عن التسطير، حل محله قلم نفاق يكتب ليسمم أفكار وعقول أفراد الأمة، وهذا شيء معروف بالتجربة والواقع، فأين ألسنتكم وأقلامكم؟ وأين مجهوداتكم في نصرة شريعة الله؟ يجب علينا أن نحاصر العلمانيين، وأنا أقول: إن العلمانيين هم المنافقون؛ لأنهم أناس يظهرون الدين ومصلحة الإسلام، ويخفون الحرب الشعواء على الإسلام وأهله، ولذلك تراهم يستشهدون بأشياء شرعية، ونصوص شرعية في كتاباتهم.
ومنهم من يقول: نحن نحترم جداً ابن جرير الطبري، سبحان الله! أنت العلماني الخبيث! ما لك وابن جرير الطبري؟ وما صلتك بـ ابن جرير الطبري؟ وماذا تعرف عن ابن جرير الطبري؟ وما مدى اقتناعك وإيمانك بآراء وكلام وعلم ابن جرير الطبري؟ الآن جئت لتجتزئ من تفسيره شيئاً معيناً تعلق عليه تعليقاً يروق لمزاجك الفاسد، ويكتبون باسم الضرورة والمصلحة الشرعية، ويكتبون باسم مرونة الشريعة وتطوير الفقه، ويستخدمون كلام الأئمة، ويقولون: الإمام مالك يقول: "من شيوخي من أستسقي بهم الغمام ولا آخذ منه"، ويريدون بهذا الحق باطل، أي: أن الدعاة والمشايخ والعلماء للبركة، وليس للأخذ عنهم.
إنهم بهذا القول يريدون أن يقولوا للناس: هؤلاء الدعاة والمشايخ للبركة، لكن لا تأخذ عنهم شيئاً، لأن الذي يؤخذ من عندنا نحن العصريين، والواعين، والمتقدمين، والمتحضرين والمتفتحين، أما هؤلاء فهم رجعيون ومنغلقون.
فهم يتكلمون بأشياء من الإسلام، فهل وعينا تماماً الأبعاد التي تنطوي عليها كلماتهم؟ وماذا يريدون؟ وكيف الرد عليهم؟ لا يجوز أن نجعلهم يسرقون أضواء الإسلام أبداً ويتلبسون بها، ولا يمكن أن يفعلوا ذلك، فمشاعل نور الإسلام بأيدينا نحن دعاة وأبناء الإسلام وليست بأيديهم هم، إنما يأخذوها ليطفئوها، ويضللوا بها الناس.
وهؤلاء أعداء الدين يصطنعون أبطالاً ليلتف حولهم الناس، وقد يقولون كلاماً جريئاً ليعجب بهم الناس، ويفتعلون انتصارات وهمية، مثل ما فُعِلَ لـ أتاتورك لكي يظهر ويبرز، وكان الجيش التركي في هزائم متوالية وأمام جيش اليونان تراجع بعملية مدروسة وانسحاب تكتيكي للجيش اليوناني أمام الجيش التركي بقيادة أتاتورك؛ ليظهر أتاتورك بطلاً شجاعاً أنقذ الأمة من الكارثة، فرفع على أعناق الناس، ولكنه رفعٌ ليضربهم ويضرب دينهم وإسلامهم، فمنع الأذان باللغة العربية، ومنع حجاب المرأة وطمس هوية المسلم.
ولكن الله عز وجل أهلكه، وكشف باطله، وظهر في تركيا اليوم من العناصر الإسلامية وأهل الدين من يبرهن على أن الدين لا يمكن كبته ولا إطفاء نوره.
يقول لي أحد الإخوان: ذهبت إلى هناك، فمشيت في إحدى البلدان، فقيل لي: لا تصدق دعك من العاصمة والمدن الكبيرة، لكن ادخل في الداخل حجاب كامل، قرية عددها ثلاثون ألف نسمة لا تكاد ترى فيها امرأة سافرة.
ورئيس بلدية مسلم، أول ما وصل إلى ذلك المنصب أصدر قراراً بإغلاق ملاهي الدعارة في البلد، فقامت إحدى الداعرات وتكلمت في عرضه بأنه رجعي ومتخلف، ويريدنا العودة إلى الماضي والعصر الحجري! فقال لها بأسلوب جريء وقوي: أنا على استعداد لفتح هذه الملاهي، إذا كنت أنتِ أول داعرة تكونين رأس مال المحل، فأخزاها الله وسكتت.
أيها الإخوة: هذا الدين دين عظيم، ونحن حتى الآن لا ندرك عظمة هذا الدين، هذا الدين لا يمكن أن يطفئ نوره مهما فعلوا، يضرب الإسلام في مكان، وتمر عليه عشرات السنين وإذا به يظهر مرة أخرى، يقتل علماؤه، ويشرد دعاته ويسجنون ويضطهدون، وإذا بأجيالٍ جديدة لم يحسب لها أعداء الإسلام حساباً تهب مرة أخرى، لتعلن أن الإسلام موجود، وأن الهوية الإسلامية موجودة.