ثم شرع يعرف الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، ومنزلٍ من منازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات.
فلو عندك أي حكم أو أي شيء سمعته أو رأيته أو قرأته أو حفظته، فلابد أن تعرضه على السنة، فإن وافقته السنة فتمسك به، وإن خالفته السنة فاقذف به.
بعض الناس عندما تأتي وتعلمهم السنة، وافتراض أن بلداً منتشر فيها القنوت في صلاة الفجر، فعندما تأتي وتعلمهم السنة فإنهم سيتركون القنوت في الفجر الدائم إلى السنة وهي قنوت النوازل؟ وإذا خالفتهم كأن صليت بهم ولم تقنت؛ عملت عندهم مصيبة عظيمة، فيعيبونك ويذمونك؛ لأنك أنت مفارق لما عليه الناس، وللطريقة وللجماعة ونحو ذلك.
وبعض الناس يعيش في بيئة -وهذا الكلام مهم جداً، وليس هو فقط في قضية العبادات بل حتى في المحرمات- بعض الناس مثلاً يقولون: عندنا في بيئتنا مصافحة بنت العم وبنت الخال أمر طبيعي، وإذا امتنعت عن مصافحة قريباتي فستكون القطيعة والمشكلات كثيرة جداً، فماذا أفعل؟ أو تجده يقول: أنا في بيئتي يطوفون بالقبور والأضرحة أنا في بيئتي يُقنت في صلاة الفجر باستمرار أنا في بيئتي لا تُطبق السنة الفلانية والفلانية، أو تحدث أشياء كثيرة، فما هي الطريقة؟ الطريقة أن كل شيء في بيئتك تعرضه على السنة، فإن وافقها فخذ، وإن خالفها فارم به، وهكذا فالعجب للمقيم في مدينة طبائعه وعوائده وما ورثه عن آبائه وأجداده، ولا يريد أن ينتقل إلى مدينة الحق والسنة والدليل وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
هذه الهجرة أهم من هجرة الجسد، وهذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، وعن الهجرة التي تقتضيها شهادة أن لا إله إلا الله سيسأل العبد يوم القيامة، بل قال ابن القيم: وفي البرزخ، وفي كل الدور هو مسئول عنها.
قال قتادة رحمه الله: "كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".
فالأولى: متعلقة بمبعث العمل وغايته، أشهد أن لا إله إلا الله، إيمان بالله، واحتساب لما عند الله.
والثانية: متعلقة بكيفية العمل، وهي مرتبطة بشهادة أن محمداً رسول الله، هل تابعت سنته وطريقته في العمل أم لا؟