ويُلفت النظر إلى مسألة مهمة لدارسي الطب والفيزياء والعلوم الفلكية والعلوم الدنيوية، يقول: " فأما كثير من الناس -وهم علماء الدنيا- وأهل الطباع المتفلسفة وغيرها؛ فيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ويأخذون بظاهرٍ من القول) يرون ظاهر الحركات والأعمال التي للمخاليق وبعض أسبابها القريبة، وبعض حكمها وغايتها القريبة فيقولون: هذه علتها، كما يذكرون في وظائف الأعضاء في الطب، وفي تشريح الإنسان وأعضائه وحركاته، لماذا يحدث كذا؟ لأنه كذا وكذا.
لا يقولون لأنها مخلوقة لله ومربوبة للرب، وأنه هو الذي يحركها ويصرفها ويسخرها، بل يقولون: إن هذا يحدث لأن إشارات الدماغ تُرسل العضلات فيحدث كذا، فيرون السبب القريب والغاية القريبة، ويعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ولكن لا يقولون في كلامهم وفي كتبهم: تتحرك لأنها مربوبة للرب، ومقهورة ومذللة وخاضعة لله تعالى، ولأن هذا أمره، وهو الذي أمرها بأن تتحرك هكذا، ولماذا يسير الدم من هذا الاتجاه إلى هذا الاتجاه؟ لأن الله أمره بذلك وهو خاضع لأمر الله عز وجل.
هذا السبب الأصلي، لكن السبب الظاهر مثلاً لأن الضخ كذا، واتجاه الضخ من القلب، فالدم يسير باتجاه كذا ونحو ذلك، فهؤلاء علماء الدنيا ما تصل عقولهم لقضية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:18] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ما تصل لهذا، يبقى فقط على مستوى الأسباب الدنيوية، تفسير الأمور بالأسباب الدنيوية.
لماذا وقع هذا النيزك؟ لماذا انفجر هذا النجم؟ لماذا حصل كذا؟ فيقولون: أسباب الحرارة والضغط، وتجاذب الكواكب والحركات ونحو ذلك، لكن لا يقول: لأن الله أمر بذلك، ولأن الله شاء ولأنه قدره، فلا يقولون ذلك ولا يأتون بهذه السيرة إطلاقاً، والمؤمن يؤمن بالأمرين معاً، يعرف السبب الطبعي ولكن يعرف أن وراء قوانين الطبيعة الله عز وجل، وأن كل شيء يسير بأمره، ولذلك النار التي تسبب الإحراق، إذا قال الله لها كوني برداً تكون برداً، وسلاماً فتكون سلاماً، وهكذا.
وتتخلف بعض القوانين عن العمل، لأن موجد القوانين هو الذي منعها من العمل، فالشمس تخرج كل يوم من المشرق إلى المغرب وتدور وتعود، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كل يوم تستأذن من ربها أن تُشرق من المشرق وتذهب إلى المغرب.
فهل سمعت من علماء الطبيعة والفلك من يقول: إنها مأمورة بأمر الله وأنها تستأذن، لماذا تُشرق من المشرق؟ يقولون أي جواب دنيوي خطأ أو صح، لكن نحن نعرف لماذا تشرق؟ لأن الله أمرها بذلك واستأذنت وأذن لها، ويوم القيامة يكون أول علامات تغير العالم العلوي طلوع الشمس من مغربها، فتأتي تستأذن ربها أن تشرق من المشرق فلا يأذن لها فتعود وتخرج من المغرب، فكيف سيفسر ذلك علماء الفلك.
فإذن {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] ونحن لا ننكر السبب المادي، ولا نقول لا تقولوه، بل قولوه، ولكن ذكِّروا بالسبب الأصلي للشيء، واربطوه بخالقه ومسببه وموجده وآمره، فيقع الغلط من إضافة هذه الآثار العظيمة إلى مجرد قوة الجسم، ولا يعرف هؤلاء الحكمة، وأن ذلك من عبودية الأجسام والكائنات لله عز وجل.
لماذا يحدث المد والجزر؟ يقولون سبب متعلق بالقمر والجاذبية، لكنه لا يُذّكر إطلاقاً بأن من عبودية البحر لله هذه الحركة، وأنه شاء ذلك سبحانه، وأنه الآمر به، وأنه من خضوع البحر له ونحو ذلك.
لكن أهل العلم يضيفون جميع الحوادث -انظر الفرق بين العالم- المسلم الذي ينطلق من الدين، وبين الكافر الذي ينطلق من الطبيعة فقط، في إضافة جميع الحوادث إلى خلق الله ومشيئته وربوبيته، فهؤلاء أصح عقلاً من أولئك.
قال: " ومن يدخل في ذلك كل شيء حتى أفعال الحيوان فهو المصيب والموافق للسنة والعقل ".
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " ولهذا تجد هؤلاء إذا تكلموا في الحركات التي بين السماء والأرض، مثل حركة الرياح والسحاب والمطر وحدوث المطر، من الهواء الذي بين السماء والأرض تارة، ومن البخار المتصاعد من الأرض تارة وكما يخلق الولد في بطن أمه من المني، وكما يخلق الشجر من الحب والنوى، فإنهم يشهدون الأسباب المرئية ويتكلمون عنها، ويعرضون عن الخالق المسبب لذلك كله، وعما جاء في ذلك من عبادته وتسبيحه والسجود له {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116] الذي هو غاية حكمته ".
الآن ذكر في ثنايا الكلام استطراداً في قضية الرد على الملاحدة الذين يقولون كل شيء من الطبيعة، وهذا خلقته الطبيعة، وهذا خلق نفسه، والطبيعة خلقت نفسها، والكون خلق نفسه، وأن كل شيء مخلوق من مادته التي هو فيها، فضرب مثلاً بالشخص الذي يكتب بالحبر كلاماً، فيأتي واحد ويقول من الذي خلق الكلام؟ فيجيب: الحبر الذي خلق الكلام، من الذي كتب الكلام؟ الحبر الذي كتب الكلام.
فلو أن شخصاً رأى كلاماً مكتوباً بالحبر، وسأل من الذي كتبه؟ قيل: الحبر الذي كتبه، هل سيقبل هذا الجواب؟ لا.
فهذه مخلوقاته في أرضه وسماواته وكونها دالة على أنه خالقها سبحانه وتعالى:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وهؤلاء يجعلون هذه الطبيعة هي العلة الفاعلة، أو هي الخالقة، وهذا طبعاً كفر، وهو أعظم أنواع الكفر.