والمحبة والإرادة التي هي مبعث كل الحركات في العالم، تنقسم إلى شيء محبوب لله وغير محبوب لله، وكذلك الأعمال والحركات منها محبوب لله، ومنها غير محبوب لله، وإذا كان كذلك فالمحبة لها آثار وتوابع، سواء كانت محبة صالحة محمودة، أو كانت غير محمودة، فمثلاً لها حلاوة ولها أحزان.
والحي العاقل لا يختار أن يُحب ما يضره، وإذا فعل فإنما يكون ذلك عن جهل أو هوى، لأن النفس قد تهوى ما يضرها، بل كثيراً ما تهوى ما يضرها، وهذا من ظُلم النفس، وقد تكون جاهلة فتهوى شيئاً وتحبه وليس من مصلحتها، وقد يعمل الإنسان شيئاً نتيجة لاعتقاد فاسد من شبهة أو شهوة، علماً بأن الشهوة بحد ذاتها ليست مذمومة، فإن من الشهوات ما هو محمود ومنها ما هو مباح.
فمثلاً: القريب الذي يُحب لقاء قريبه ويشتهي ذلك ويهواه، فهذه المحبة في نفسه موافقة لما يريده الله، وهذا شيء محمود، لأن أصل صلة الرحم من اسمه سبحانه وتعالى، الرحم من الرحمة والرحمان.
فهذه الرحم التي خلقها الله سبحانه وتعالى وسماها باسم مشتق من اسمه، وسماها بشيء مشتق من صفته، وهي صفة الرحمة، فالله يحبها، فإذا الإنسان تابع هواه ومحبته في لقاء قريبه، يكون موافقاً لمحبة الله.
لكن حتى محبة الأقرباء إذا لم تضبط بضوابط الشرع قد تنقلب إلى محبة ضارة يبغضها الله، مثل من أحب بعض أولاده أكثر من بعض، فنتج عن ذلك أنه لم يساو بينهم في الأُعطيات، فجار بين الأولاد، وكذلك من دفعه محبته لأقربائه إلى محاباتهم على حساب أصحاب الحق، فأنت تسمع بعض العامة يقولون مثلاً: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، هذه قاعدة عندهم، فيقول: أنا مع الأقرب أسانده وأناصره وأعاضده ولو جار ولو ظلم، أدخل معه في هيشاته وأناصره على الغريب ولو كان الغريب محقاً.
فإذن قد تكون بعض الأشياء التي أصلها محمود مثل الاعتناء بالرحم، ولكن إذا لم تضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى الجور، ولذلك يقول الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] وكذلك الذي يحب الطعام والشراب والنساء -وأقصد بالشراب الأشربة المباحة- فإن هذا محمود، بل لا يصلح حال ابن آدم إلا بهذا، ولو أن الإنسان لا يأخذ حظه من طعام وشراب ونكاح فلن تستقيم النفس ولن تقوم الأنساب ولن توجد الذرية، ولكن هذه المحبة للطعام والشراب والنكاح لو لم تُضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى مفاسد.
ولذلك قال الله في الضوابط: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] وقال الله في النكاح: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] تعدى النكاح والزواج وملك اليمين في شهوة الوطء والاستمتاع واللذة فإنه سيقع في الحرام {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:31] أي: الذين جاوزوا حدود العدل.
ومن الناس من تكون آراؤه واستحساناته موافقة للنصوص، كما عبر عن ذلك مجاهد رحمه الله بقوله: " أفضل العبادة الرأي الحسن، وهو اتباع السنة ".
فمن الناس من صلاحهم وقربهم من الله، وصلاح فطرتهم أن آرائهم موافقة للحق.
عمر رضي الله عنه كان يرى ويهوى تحريم الخمر بعقله، ورأيه أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يحجبن، ويفرض عليهن الحجاب، وكان يرى أن هذا هو الصحيح ونزل القرآن بموافقة آراء عمر رضي الله عنه؛ لأنه من قربه من ربه وسلامة فطرته وعقله أدرك أموراً يريدها الشرع ووافق ربه فيها.
وقد قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6] ولذلك صاحب العقل السليم أحياناً يكون كافراً، ويتوصل بعقله إلى شيء موجود في الشرع، ولكن طبعاً أكثر من يحصل لهم ذلك هم علماء الإسلام، أهل الحق وأهل السنة، هؤلاء الذين تكون آراؤهم موافقة للحق، بحيث لو أن الواحد ما اطلع على الدليل يتوصل إلى النتيجة، ثم قد يطلع على الدليل فيحمد الله أن رأيه كان موافقاً للدليل.
بعكس أهل الأهواء الذين أهواؤهم مخالفة للحق، ولذلك كان أهل السنة يسمون أهل البدعة بأهل الأهواء؛ لأنهم يخالفون الحق، والرأي المخالف للسنة لابد أن يكون جهلاً وظلماً.
ما علاقة الهوى بمسألة المحبة؟ العلاقة واضحة جداً؛ لأن اتباع الهوى يكون في الحب والبغض، فالإنسان يبغض بهواه ويحب بهواه، وقد يبغض شخصاً ويحب شخصاً، قد يبغض رأياً ويحب رأياً، ويبغض منهجاً ويحب منهجاً، فالمسألة تعم، فهو يُحب الأشياء ويبغضها على حسب هواه، فإذا كان هواه موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان على الحق.