إن ما حصل للأمة الإسلامية مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم لما دعا ربه ألا يجعل أمته بأسهم بينهم، ولكنه لم يعطه هذه؛ فجعل الله بأس هذه الأمة بينها في كثيرٍ من المواطن لما ابتعدت عن تحكيم الشريعة، ولما حصلت البغضاء والشحناء والفرقة بينهم، سلط الله عليهم من داخلهم ومن خارجهم من يسومهم سوء العذاب.
ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة، جُعل عذابها في دنياها تكفيراً لكثير من ذنوبها، ومن ذلك ما نقرأه في التاريخ من المصائب الكبيرة التي حلت بالمسلمين، ومن ذلك المصائب التي هي نوازل من الريح والخسف والزلازل والطوفان والأمراض والطواعين والجوع والفقر الذي سلط عليها، والذي لا تزال الأمة في كثيرٍ من البلدان تعيش فيه حتى الآن، نتيجة عدم تطبيق الشريعة.
إذا طبقت الشريعة في عهد عيسى بن مريم سيستظل الناس بقحف الرمانة -بقشرتها من كبرها- وستخرج الأرض كنوزاً من الذهب والفضة، وستكفي اللِّقْحَةُ الفئام من الناس تحلب في إناء، وسيطاف بالمال فلا يوجد أحد يقبله، عندما تطبق الشريعة تحل البركة في الأرض حتى يصبح الذئب على الغنم كأنه كلبها، وحتى يدخل الولد يده في الحية فلا تضره.
بسبب تطبيق الشريعة في الأرض يعم السلام والأمن في الأرض في عهد عيسى بن مريم.
لكن انظر ماذا حل بالمسلمين عندما ابتعدوا عن تطبيق الشريعة، فإن الله عز وجل قد أرسل عليهم جوعاً عظيماً في الماضي والحاضر، وابتلاءات بنهب الأموال وقتل بعضهم لبعض، وإليكم شيئاً مما حصل من المصائب في الجوع.
في عام [462هـ] حصل في مصر غلاءٌ شديد حتى أكلوا الجيف والميتات والكلاب، وكان يباع الكلب بخمسة دنانير ليأكل، وماتت الفيلة، فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب، وكان الوزير له خيول كثيرة جداً فلم يبق منها إلا ثلاث؛ لأن الناس كانوا يتخطفونها ليأكلونها، واكتشف رجلٌ يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم، فقتل وأكل الناس من شدة الجوع لحمه، وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه بظاهر البلد؛ لأنهم يخافون أن يخطف منهم إذا دخلوا البلد، وكان لا يجسر أن يدفن الميت بالنهار إنما يدفن في الليل خفية؛ لئلا يُنبش فيؤكل.
وحدث أن الناس من كثرة الموت لم يستطيعوا دفن بعضهم بعضاً، ودفن العشرون والثلاثون في قبرٍ واحد، وبعضهم ماتوا من الدفن فصاروا يرمون في البحر، وحصل كذلك أن أكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلبٍ قد اخضر، وشوى رجلٌ صبية في فرنٍ فأكلهم، وسقط طائرٌ ميتاً من حائطٍ فاحتوشه خمسة من الناس فاقتسموه وأكلوه.
وأحصي من مات من الوباء في بخارى وتلك البلاد بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، ووحشة وعدم أنس، وكان الفقراء يشوون الكلاب، وينبشون القبور، ويشوون الموتى فيأكلونهم، وليس للناس شغلٌ في الليل والنهار إلا غسل الأموات، فكانت تحفر الحفر فيُدفن فيها العشرون والثلاثون.
وتاب كثيرٌ من الناس، وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحداً يقبلها؛ لأن الناس لا ينتفعون بالأموال إنما يريدون أكلا، ً وكان الفقير تعرض عليه الثياب والدنانير الكثيرة، فيقول: أريد كسرة خبز أسد بها جوعي.
وأراق الناس الخمور، وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلَّ دارٌ يكون فيها خمرٌ إلا مات أهله كلهم.
ودخل على مريضٍ له سبعة أيام في النزع ينازع ليموت ولم يمت، فأشار بيده إلى مكان، فوجدوا فيه خابية خمر فأراقوها، فمات من وقته بسهولة.
ومات رجلٌ في مسجد فوجدوا معه (50000درهم) فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فدخل أربعة ليأخذوها بعد ذلك فماتوا عليها، ولم يخرج من المسجد منهم أحدٌ وهو حي.
والمشكلة أن المصيبة إذا نزلت تعم الناس جميعاً، وحصل موت في العلماء والفقهاء وطلبة العلم، حتى إن فقيهاً كان يدرس عليه في الفقه (700) نفس فلم يبق منهم أحياء إلا (12) نفساً.
وحصل طوفانٌ شديد في بعض الأزمنة، كما حصل في بغداد سنة (775هـ) حتى صارت السفن تنقل الناس من مكان إلى مكان، ومن تل إلى تل، ثم يصل الماء إليهم فيغرقهم {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43].
وإذا نظرت اليوم إلى حال المسلمين في الأرض تجد أن كثيراً من البلدان قد حصل فيها من أنواع الطوفان والمجاعات والحروب والأمراض والطواعين ما لا يعلمه إلا الله، وهذه المصائب -أيها الإخوة- لا تحدث في الأرض إلا بسبب، فعدم تطبيق الشريعة، سببٌ لنزع البركة، ونزول المصائب، وحصول الآفات، وحصول الاعتداءات من الكفار على المسلمين، هذا كله نتيجة عدم تطبيق الشريعة.
وقد حصل أيضاً تسلط لأعداء الله من التتر كما ذكرنا في درسٍ سابق، ومن النصارى الذين دخلوا بيت المقدس عام (492هـ) يوم الجمعة، وكان عددهم مليون مقاتل تقريباً، فعاثوا في المسجد فساداً، وأخذوا قناديل المسجد، وما فيه من الحلي، وقتلوا الناس في ذلك المكان، حتى بلغ عدد القتلى (60 ألفاً) فأكثر، وصار الناس يهربون، وفزعوا إلى إخوانهم المسلمين في أماكن أخرى ليقولون لهم: أنجدونا فلم ينجدهم أحد.
ومع الأسف! أن الخطباء قاموا على المنابر وندبوا الناس إلى الجهاد، وخرج أعيان الفقهاء إلى الناس يحرضوهم على الجهاد فلم يخرج أحد، حتى قال أحد شعراء المسلمين:
مزجنا دمانا بالدموع السواجم فلم يبق فينا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمعٌ يريقه إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فيا بني الإسلام إن وراءكم وقائع ملحقن الذرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملئ جفونها على هفواتٍ أيقظت كل نائم
وإخوانكم بـ الشام يضحى مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعمِ
تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض ذيل المسالم
النصارى دخلوا واحتلوا البلاد، ثم قال:
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى ولا يحسبون العار ضربة لازم
وهكذا بقيت الأمور حتى قيض الله لهذه الأمة عماد الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي ومن بعدهم من المماليك الذين طردوا النصارى من بلدان المسلمين: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].