ثم ننتقل الآن أيها الإخوة! إلى مفرق آخر في هذا الموضوع وهو: أن تجديد الإيمان وليس فقط بعبادات الجوارح، ليس فقط بأعمال الجوارح، أي: الصلاة والزكاة والحج.
يأتي الإنسان يوم القيامة وقد عمل سيئات كثيرة، فيقال له: هل له من عمل صالح؟ فيقال: بلى عندنا، فيخرج له بطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله، وكانت كفة السيئات قد رجحت رجحاناً عظيماً، وهذا لا يتخيل! فتُوضع السيئات في كفة، والبطاقة التي فيها لا إله إلا الله في كفة، فطاشت ورجحت بهن لا إله إلا الله، فيقول ابن القيم رحمه الله: وهنا قضية خطيرة وهي مسألة شبهة المرجئة وهي: أن كل من قال: لا إله إلا الله يغفر له كل سيئاته، لا، فهذا رجل له ميزة خاصة.
يقول ابن القيم رحمه الله: إن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
نفس العمل، نفس الإمام، نفس الصلاة، نفس الركعات، نفس الأعمال، تجد اثنين في صف واحد في مسجد واحد وجماعة واحدة، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، بأي شيء هذا وأعمال الجوارح واحدة، بأي شيء صار بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؟ بعمل القلب في حال الصلاة، بالخشوع وبالتفكر في آيات الله والتدبر، واستشعار عظمة من يقف بين يديه.
ولذلك يقول: لقد قام في قلب صاحب البطاقة من معاني الإيمان ما لم يقم بقلب كثيرين ممن قالها بلسانه، ونفس الشيء الزانية التي ملأت خفها من بئر وسقت بخفها كلباً فغفر الله لها، ويقول: ولقد قام في قلبها في لحظة أداء العمل من معاني الإيمان، ومن الشفقة على هذا الكلب المسكين واستشعار الثواب من الله، أشياء كثيرة وصفها ابن القيم رحمه الله، قال: قام في قلبها من معاني الإيمان ما لم يقم في قلب كثيرين ممن يسقون الحيوانات.
وأعمال القلوب كثيرة على رأسها: الإخلاص وهو أن يكون الاهتمام بتصحيح العمل أشد من الاهتمام بأداء العمل نفسه، فأداء العمل مهم، لكن الأهم منه تصحيح النية عند أداء العمل.
كذلك أيها الإخوة! اليقظة حالةٌ تحدث للقلب عند تأمل عذاب الله، فيستيقظ القلب، ويتحمس لأعمال الآخرة.
فحيا على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ
ومن الأمور كذلك المشتركة بين القلب واللسان: ذكر الله عز وجل {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والكلام واسع جداً في هذا، وذكر ابن القيم رحمه الله أكثر من مائة فائدة من فوائد الذكر وسردها في عدة مواضع من كتبه منها: كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب، وذكر نقطة لطيفة، يقول -أي: من عظمة الذكر-: أن الناس إذا رأوا رجلاً مصروعاً دخل فيه شيطان وآذاه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] يقول رحمه الله في فوائد الذكر: وبالذكر يصرع العبد الشيطان -العكس- كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان.
قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين -يجتمعون على الشيطان الذي حاول أن يقترب من قلب الإنسان فصرعه- فيقولون: ما لهذا؟ ماذا حصل له؟ فيقال: قد مسه الإنسي.
الآن ترى أكثر الناس الذين يدخل في قلوبهم الشياطين من أهل الغفلة، ما تحصنوا بالأوراد، ولا الأذكار، ولذلك سهل تلبس الشياطين فيهم، وأكثرهم من الفسقة والعصاة.
وحدثنا أهل المعرفة بهذا الشأن، قال: جاءوا بالمصروع وقرءوا عليه، فقال: الجني هذا كان في بانكوك وفضحه؛ لأن كثيراً منهم من أهل الغفلة، -وهذا قصة حقيقية واقعية- فكثيرٌ منهم من أهل الغفلة، ولذلك تتلبسهم الشياطين.