يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه: [لو طهُرت قلوبنا، لما شبعت من كلام الله] لو أن القلوب صافية لما شبعت ولطلبت الزيادة باستمرار من كلام الله.
وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبر القرآن مبلغاً عظيماً، روى ابن حبان في صحيحه وغيره بإسناد جيد، قال عطاء: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبيد بن عمير: حدثينا بأعجب شيءٍ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، وقالت: (قام ليلة من الليالي -أي: يصلي- فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يُصلي، فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حِجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليَّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآيات} [آل عمران:190 - 191]).
يقول ابن القيم رحمه الله في علاج ضعف الإيمان في القلب: إذا أردت أن تجود إيمانك فملاك ذلك أمران: أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تُقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهم ما يُراد منه وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك من كل آية من آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية -العلاج- على داء القلب برئ القلب بإذن الله.
وهناك أيها الإخوة! صور معينة يكون فيها استشعار التأثر عظيماً، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هودٌ وأخواتها قبل المشيب)، وفي رواية: (وأخواتها من المفصَّل) وفي رواية: (هودٌ والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت) هذه السور الخمس: "هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المشيب، بما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تدبر أمثلة القرآن.
وكان أحد السلف تدبر مرة في مَثلٍ من أمثلة القرآن فبكى، فسئل: ما يبكيك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت:43] أي: هذه الأمثال نضربها في القرآن للناس: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وأنا ما عقلت المثل، فلست بعالم، فأبكي على ضياع العلم مني.
وحال السلف في التدبر كثير جداً ومبثوث في الكتب.
منها: ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] فسجد سجدة التلاوة، ثم قال معاتباً نفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟ لأن الآية فيها ماذا؟ {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] قال لنفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟! يعاتب قسوة قلبه، والكلام في موضوع التدبر طويل، ولكن تدبر القرآن من السبل الأساسية لتقوية ضعف الإيمان.