ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله إن ساعد القدر وأعان التوفيق، والدفع أولى وإن آلم النفس مفارقة المحبوب.
إذاً: لماذا ننتظر حتى نوشك أن نقع في الحرام؟ لماذا لا نستدرك القضية ونصلح من البداية، إن مسايسة النفس وترويضها يقتضي أن تتدارك المسألة من أولها، وأول المسألة الخواطر، فاطرد الخواطر السيئة ولا تسمح لها بالاستقرار، واجعل مكانها خواطر طيبة.
فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته أصبح فكراً جوالاً، فاستخدم الإرادة فإنها تساعد الفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجع إلى القلب بالمنى والشهوة، وتوجه إلى جهة مراده، ولأهمية هذا الموضوع فقد كان الصالحون يعتنون بالخواطر، ذكر ابن كثير في ترجمة أبي صالح قال: كنت أطوف وأطلب العُبَّاد، فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق رأسه، فقلت له: ما تصنع هاهنا؟ قال: أنظر وأرعى، فقلت له: لا أرى بين يديك شيئاً ولا ترعى إلا هذه العصاة والحجارة! فقال: بل أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي، وبالذي أطلعك عليَّ إلا صرفت بصرك عني، فقلت له: نعم.
ولكن عظني بشيء أنتفع به حتى أمضي عنك، فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم -إذا لزمت طاعة الله تعالى أثبتك الله في أوليائه- ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم، ثم تركني ومضى.
والخواطر السيئة هي بذور يبذرها الشيطان في نفسك -يا عبد الله- فانتبه؛ بذر الشيطان في أرض القلب فإن تمكن من بذرها تعاهدها الشيطان بسقيها مرة بعد مرة حتى تصير إرادة.
يقول: الخواطر السيئة إذا لم تدفعها من البداية فهي بذور تصبح في أرض قلبك مزروعة يتعاهدها الشيطان بالسقيا، ويغذيها مرة بعد مرة حتى تصير إرادات، ثم يسقيها (يعدك ويحفزك ويمنيك ويدفعك ويحثك) حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال، ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذ لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها.
لو قلت لي: إن الخواطر السيئة لذيذة وأنت تريد أن أترك هذه اللذة وهذا الشيء المحبوب إلى النفس، يعني: أتخيل في الإجازة أني أسافر إلى أماكن معصية، وأسكر وأفعل الفواحش، كيف تريديني أن أترك هذه الأشياء المحبوبة ولا أفكر فيها؟ الشخص لا يترك محبوباً إلا لمحبوب أعلى منه وأقوى، ولذلك إذا كانت محبة الله فوق كل شيء هانت كل المحبوبات الأخرى، إذا كانت محبة الله أعلى من كل شيء ذهبت محبة الزنا والخمر والشهوات المحرمة، ومحبة صور النساء والمردان؛ لأن محبة الله أصبحت فوق كل هذه وهذا الكلام لأصحاب العقول -العناصر المفكرة العاقلة- فالعقل يمنع ويعقل ويحجز عن كل شيء ضار،.
فهناك موازنات، فإذا وازنت اقتنعت، وإذا اقتنعت تركت، فخذ هذه الموازنة ووازن بين فوات المحبوب الأخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب الخسيس إليه البتة؛ لا في قدره ولا في بقائه.
فمحبوب المعصية إذا قارنتها بما سيفوتك، مثلاً: قارن الزنا بما يفوتك من الحور العين، وقارن شرب الخمر في الدنيا إذا فعلته بما سيفوتك من خمر لذة للشاربين، لا فيها غول (لا يذهب عقلك، ولا يصاب رأسك بالصداع، ولا بطنك بالمغص) ولا هم عنها ينزفون.
قارن إذا شربت الخمر بين هذه الخمر الخسيسة النجسة التي يعقبها زوال العقل، والتي تسبب في النهاية النكد، وربما طلاق الزوجة واحتقار الناس، والسكران حتى عند الكفار يعتبر صورة مزرية، وحادث السيارة وما ترتب على السكر والمخدرات من الأشياء، وممكن أن يكون في أوله لذة ولكن في آخره حسرة وألم.
إذا استعملته قارن بينه وبين ما سيفوتك في الآخرة؛ قارن ووازن واخرج بنتيجة.
ثم قارن بين ألم فوت هذا المحبوب وبين ألم فوت المحبوب الأعظم والأكبر، فأنت تفوت محبوباً عظيماً من أجل محبوب خسيس، وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله تعالى، والتنعم بحبه وذكره وطاعته، ويقارن بين هذا ولذة الإقبال على الرذائل والإتيان بالقبائح، وليوازن لو انتصرت على نفسك والانتصار على الشيطان -الانتصار على الشيطان فيه لذة- وليوازن بين لذة الظفر بالذنب ولذة الظفر بالعدو، وبين لذة الذنب ولذة العفة، المشكلة الآن أن العفة والصدق والأمانة فيها لذات، وليست اللذة فقط في الكذب والخيانة والزنا، لا.
هناك لذة في المقابل، لكن المشكلة أن الناس لا يعيشون لذة الطهارة، والأمانة، والصدق، ويعيشون لذة الكذب ولذة الخيانة، كثيرٌ منهم هذا حالهم، قارن بين لذة الطاعة ولذة المعصية، قارن بين ما سيفوتك من ثناء الله وملائكته وبين لذة هذه المعصية، قال ذلك الكلام النفيس وهذا معناه واختصار له، قاله: ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن.